يحدثوننا عن الحداثة وعصر ما بعدها
أمواج ناعمة
يحدثوننا
عن الحداثة وعصر ما بعدها
د. ياسر محجوب الحسين
يحدثوننا عن عصر الحداثة، بل يحدثوننا عن عصر ما
بعدها؛ فهذا يوشكا فيشر وزير خارجية ألمانيا الأسبق يقول في مقال له: "من الواضح
أن أوروبا المسالمة في عصر ما بعد الحداثة سوف تجد صعوبة كبيرة في التعامل مع التحديات
التي ينطوي عليها إحياء سياسات القوة".. فما هي الحداثة وما هو عصرها وأين
نحن منها؟ وهل الحداثة تاريخيا لم تظهر إلا مع أوروبا؟.. الواقع حتى فلاسفة الغرب يعطون لهذا المصطلح
معاني مختلفة أحيانا، بل ومتناقضة في بعض الاحيان.. البروفيسور جيلبير هوتوا أحد
أهم الاختصاصيين البلجيكيين في تاريخ الفلسفة، يرى أن مصطلح ما بعد الحداثة مصطلح غامض
ومثير للجدل والخلاف. ويشير الفيلسوف الفرنسي جان فرانسوا ليوتار إلى أن فترة ما
بعد الحداثة، تعني انهيار الانظمة الفلسفية التي سيطرت على أوروبا منذ القرن
الثامن عشر، بل ويصفها بالحكايات الكبرى أو الأساطير الكبرى. ففي
رأي ليوتار أن الليبرالية، والاشتراكية، والماركسية، وفلسفة التنوير عموما، أنظمة
فلسفية وعدت البشرية بالتحرر من الفقر والجهل والقمع والظلم بيد أنها فشلت فشلا
كبيراً في نهاية المطاف وانهارت، ومن ثمّ انتهت مرحلة الحداثة لكي تبدأ مرحلة
جديدة سميت بمرحلة ما بعد الحداثة.
لكن اليوم يرى فيشر أن دول أوروبا بعد تاريخ دموي، اختارت الدول
اختارت التعاون والتكامل بدلا من المواجهة العسكرية، والتنمية الاقتصادية بدلا من سياسات
القوة. ولكن – والحديث لفيشر - "أوروبا الاتحاد الأوروبي" هذه يُرمى بها
الآن إلى مسار العودة إلى الماضي، وتواجه مرة أخرى التحدي المتمثل في العودة إلى سياسات
القوة على حدودها وفي جوارها المباشر. إذن فإن فيشر يريد لأن يقول
أن الحضارة والحداثة الأوروبية والرفاه الاقتصادي مهدد وغير مؤمن الظهر.
وعكس الفهم السائد بأن الحداثة هي تفوق مادي فحسب
ممثلا في التفوق الاقتصادي والتكنلوجي والعلمي؛ يرى ليوتار أن الحداثة قد حُرِفت
عن مسارها الصحيح من قبل المؤسسة التكنولوجية - العلمية، ثم من قبل المؤسسة
التكنولوجية – الرأسمالية، وهي المؤسسة التي تحكم الغرب حالياً، بل وتتحكم بمصير
جميع شعوب الأرض بدرجات متفاوتة. وبالتالي فهو يرى أنه لا بد من الخروج منها
والانتقال إلى مرحلة جديدة هي: مرحلة ما بعد الحداثة. في ذات الوقت يقول جيلبير
هوتوا أن الحداثة تؤمن بالكونية العقلانية، أي الإيمان بالعلم والتكنولوجيا، واستغلال
الطبيعة من قبل الانسان ولأجل الانسان، والثقة بمقدرة الانسان على تحقيق التقدم
والسعادة.
شعوب الأرض المستبعدة من "نعيم الحداثة"
خاصة النخب المستنيرة ينظرون إلى ما بعد الحداثة بشكل ايجابي من خلال التركيز على
الخصوصيات الثقافية للشعوب المختلفة ورفض الثقافة الأوروبية باعتبارها الأجدر وما
عداها لا يستحق الاهتمام بل يستحق الإلغاء والتهميش في أحسن الحالات.. ما لم يتحلّ
به الغرب رغم ما بلغه من شأو عظيم، هي الموضوعية حين يتعاطى مع الآخر؛ فالنظرة
الموضوعية تقتضي أن كل الثقافات متساوية من حيث القيمة، وليس هناك من ثقافة عليا
وثقافة دنيا. أو هكذا يجب أن تتسم فلسفة ما بعد الحداثة بالتسامح والنسبية وعدم
التعصب الأعمى للنموذج الغربي أو الاوروبي، لأنه نموذج ثقافي من جملة نماذج أخرى
ولا يتمتع بصفة الكونية على عكس ما يزعم أنصار الحداثة من الغربيين.
التفكير الغربي القائم
على النظرة الدونية للثقافات الأخرى ولّد أجساماّ مضادة في الثقافات الأخرى ضد ما
يعرف بخطر العولمة الوليد الشرعي لعصر ما بعد الحداثة؛ ويمكن القول إن
العولمة أو الثقافة العالمية ليست شيئا سوى الثقافة الغربية، أو هكذا يراد لها أن
تكون ثقافة تُعمّم، وذوقاً واحداً يفرض على جميع البشر، تُلغى بموجبهما الاختلافات
والتمايزات الحضارية.. فباسم التعددية العالمية وباسم الثقافة الإنسانية يتم
التعدي على الثقافات غير الغربية، وتجاوز الخصوصيات الاجتماعية، فهي كما ينظر لها
البعض رديف البرجوازية الأوروبية.
نحن اليوم أمام معطيات محددة تفرزها العولمة من أبرزها أن العولمة مصدرها
ومركزها الغرب؛ وأنها ليست أدوات ووسائل تقنية حديثة أو أنماط إنتاج جديدة فحسب،
بل هي مضامين قيميّة وثقافية. لذلك يكون للخوف والتحفظ في التعامل معها ما يُبرره.
لذا يجب النظر باهتمام إلى الجوانب الخفية لبريق العولمة.
إن الحوار والنقاش بل السّجال، يدور اليوم حول فكرة الاندماج التي تطرحها
نظرية العولمة، ويؤكد محور المناقشات على وجود تحديات من شأنها القضاء على فكرة
التنمية والخصوصية. على سبيل المثال طُرح على المنطقة العربية العديد من المشروعات
في الآونة الأخيرة منذ مؤتمر مدريد للسلام في الشرق الأوسط في بداية تسعينيات
القرن المنصرم، ولا تنتهي عند "الشرق أوسطية" التي طرحها في السابق
الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز بعد اتفاقيات أوسلو، ثم "السوق الشرق
أوسطية".. لعل منطقتنا الأكثر استهدافاً؛ فمنذ سقوط الإمبراطورية العُثمانية فقد
غدا التنافس المحموم بين منظومتين ثقافيتين عالميتين، هما الفرانكوفونية والانجلوساكسونية.
أشدّ خطورة لا على الأمن الثقافي فحسب، وإنما على الأمن القومي العربي برمته. وهما
إلى اليوم تخوضان "حرباً" ثقافية باردة بمعنى أن الصراع الدائر بينهما
تخطى كل الاعتبارات إلى كل ما يمت بصلة إلى الشؤون الثقافية والفكرية والإعلامية
والفنية والأدبية والعلمية والتكنولوجية واللغوية وغيرها. وما يستدعي الانتباه أن
العالم العربي لا يزال محور هذا التنافس وموضع تجاذب كبير من جانب المنظومتين،
بحيث لم يخل أي قُطر من أقطاره من ظلّ وتأثير كل منهما فيه.
تعليقات