وثيقة البث الفضائي.. جدل بيزنطي أم مخاوف مشروعة؟

بد من فلسفات واضحة تعالج قضايا الاتصال بجوانبه المتعددة
وثيقة البث الفضائي.. جدل بيزنطي أم مخاوف مشروعة؟


د. ياسر محجوب الحسين


هل صحيح أن وثيقة البث الفضائي التي صادق عليها وزراء الإعلام العرب تعود بالإعلام العربي القهقرة وتزوي به نحو جاهلية جديدة؟ أم أن تنظيم أي أمر من أمورنا مسألة منطقية وينسجم مع متطلبات الحياة العصرية؟ من المؤكد أنه ليس من المنصف أن يتم تبرئة حكومات بعض الدول من سوء النية، لكن في المقابل نجد أن هنالك طرح انفعالي موغل في التطفيف وسوء الفهم من جانب من تصدى منتقدا تلك الوثيقة التي انتهى بها الأمر لأن تكون استرشادية، وهكذا هي قرارات مؤسسات الجامعة العربية دائما فليس منها خوفٌ لأنها غير مُلزمة لأي عضو حتى في حالة أخطر القضايا الإستراتيجية. فكثيرون أخذوا على هذه الوثيقة المآخذ لكنهم لم يلتفتوا إلى أهميتها من حيث المبدأ إلا قليلا. وتركّز نقدهم لها باعتبارها تتضمن العديد من القيود والمواد المطاطة، وتعمل على تقنين وجود رقيب على ما تنشره المحطات الفضائية من أخبار أو حوارات أو أحداث حية بدعوى احترام السيادة الوطنية وعدم التأثير في "السلم الاجتماعي والوحدة الوطنية والنظام العام". والحقيقة أن هذه الوثيقة لا هي مزنةٌ حبلى بقطْـرِ هناءِ ولا هي أيضا مارد جنٍ انطلق من قمقمه. ولا جدال في إن غياب الحرية عن النشاط الإعلامي يُورث اختلالا في حركية الفكر والرأي العام فتغدو عملية التفاعل بين الآراء والأفكار مهمشة فتصبح سطحية أو خداعية أو ربما نفاقية. ولاشك أن هناك قلق مشروع من أن تصبح المدن الإعلامية شبه ثكنات عسكرية باردة وبشعة بفعل أطر قانونية من لدن النظم السياسية الحاكمة والمتنفذة. لكن بالضرورة أن الفشل في سبر أغوار الوثيقة واستعصاء استجلاء كنهها سيؤدي إلى وقوف البعض على رصيفها والاكتفاء بطرق أبوابها.
ويأتي اهتمام الحكومات العربية بقضية تنظيم البث الفضائي لأن الإعلام أداة من أدوات السّياسة، ينقل سياسات صناع القرار إلى الشعوب، ويبلور اتجاهات ومواقف الشعوب حتى يستفيد منها صنّاع القرارات؛ ووسائل الإعلام أداة قوية يُعتد بها بالنسبة لأي نظام سّياسي، وعموما تتدخل الحكومات في الإعلام لعدة أسباب: منها الأسباب السّياسية المتعلقة بالانتماء والشعور بالوطنية وترسيخ القيم والمعتقدات السّياسية. ويبدو أن هناك إشكالية كبيرة خاصة في ظل العولمة الإعلامية وهي نتيجة حتمية للثورة الاتصالية؛ إذ كيف يمكن التوفيق بين ضرورة التخلّص من الهيمنة الثّقافية الغربية وبين ما يبدو أنه تغيير للصّورة التقليدية التي كانت قائمة منذ أمدٍ بعيدٍ؛ والمتمثّلة في المحطات التلفزيونية الخاضعة لسيطرة الدولة. فكأنما يقول الإعلام الغربي لنا فتّحنا وصأصأتم.. أي أنه أبصر بينما نحن مازلنا نتلمس البصر.
وضرورة تنظيم البث الفضائي تقتضيه التطورات المتلاحقة والنمو المتسارع في وسائل الاتصال، فلابد من فلسفات واضحة وأساليب محددة لمعالجة قضايا الاتصال بجوانبه المتعددة، ولا يجب أن تكون هناك حساسية تجاه هذا التنظيم من جانب المدافعين عن حرية الإعلام فعلى مستوى العالم هناك ثلاثة نظم ملكية معروفة، في إطار الاتصال الجماهيري ممثلا في الفضائيات ويمكن أن يضاف إلي تلك النظم نظام رابع مكون من خليط من نظامين أو من الأنظمة الثلاثة معاً. وهذه الأنظمة هي نظام تملكه وتديره الدولة وهو السائد في العالم وتطبقه معظم الدول، والثاني تمنحه الدولة حق الاحتكار كما في بريطانيا ممثلا في هيئة الإذاعة البريطانية BBC، ونظام ثالث ترخصه الدولة ويدار على أساس تجاري كما في الولايات المتحدة الأمريكية.ووجود الدولة في داخل دائرة التنظيم لأجهزة الاتصال لا يمثل ولا يعني أي نوع من الرقابة أو التسلط كما قد يتبادر إلى الذهن.
إن متطلبات عملية تشكيل رأي عام راشد تضع عبئاً كبيراً على أجهزة الإعلام، وصولا لهدف إنعاش العقل العربي، فذلك الهدف تجاوز مرحلة كونه مطلباّ ثقافياّ، بعد أن أصبح مقوماً تنموياً. ولن تقف الحكومات مكتوفة الأيدي أمام قدرة الفضائيات على تغيير آراء الناس بإحدى طريقتين: الأحداث التي تختار تقديمها وإبرازها وتسلّيط الضوء عليها، والكيفية التي يتم بها معالجة تلك الأحداث وطريقة تحليلها والتعليق عليها. وتُعتبر الفضائيات أحد أهم وسائل الاتصال الجماهيري التي تتميز بقدرتها على توصيل الرسائل إلى جمهور عريض متباين الاتجاهات والمستويات، حيث تصلهم الرسالة في اللحظة نفسها وبسرعة مدهشة، مع مقدرة على تنمية اتجاهات وأنماط من السلوك غير موجودة أصلاً.
وسواء كان همُّ وزراء الإعلام العرب الأول هو محاصرة ولجم التأثير السياسي للفضائيات أو كان هو حرصهم على سلامة الجانب الأخلاقي في مجتمعاتهم، فإن وجود إطار تنظيمي للعملية الاتصالية برمتها أمر محمود ولابد أن يقابل بمعالجة موضوعية متروّية تُعزّز من الايجابيات وتكشف السلبيات بل وتحاربها.


صحيفة الصحافة 24 يونيو 2008

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة