المسألة السودانية وآفاق الحل.. الميتافيزيقا تفرض نفسها

لفك عُقد التهميش ومزاعم الظلم الاجتماعي
المسألة السودانية وآفاق الحل.. الميتافيزيقا تفرض نفسها


د. ياسر محجوب
كاتب سوداني


ظل السودان إلى وقت قريب ينعُم باستقرار نسبي متمثل في سِلم اجتماعي وتعايش ثقافي، على الرغم من إنه وطن شاسع مترام الأطراف، كثير القبائل والعصائب. حتى لامسته الهزات الارتدادية للنظام الدولي الجديد فاستوت بذور الفتن على سوقها كأنها شجر الزقوم، فاختلفت الآراء والأهواء، حتى أنه غدا وراء كل رأي منها وهوى عصبية تمانع دونها فكثر الانتفاض على الدولة والخروج عليها في كل وقت، تحت مزاعم ودعاوي التهميش والظلم الاجتماعي والتعالي الثقافي. ولم يكن ذلك الاستقرار النسبي سوى ثمرة الدولة بمعناها التقليدي في العقل العربي والإفريقي، حيث قيام طبقة ثقافية معينة أو ربما اجتماعية بمقتضيات الحكم والسلطان. حيث كانت الدولة وفقا لذلك المفهوم إطارا نظّم بسلاسة علاقات الاختلاف والتعددية. والحقيقة أن هذا المفهوم للدولة ما زال هو السائد والمهيمن والمطبق في معظم دول العربية والإفريقية، إن لم نقل كلها، رغم مؤشرات "الحداثة" السطحية والهشة في ذات الوقت، التي تخفي تحتها جذور الدولة التقليدية.
وبلغت المشكلة السودانية اليوم من التعقيد ما يجعل البعض يبحث بجدية في استخدام الميتافيزيقا لتفسير ظواهرها وتقاطعاتها لأنها خرقت كل القواعد العلمية المتعارف عليها، والميتافيزيقا أو الباراسكيولوجي كما هو معلوم هو علم ما وراء الطبيعة وهو علم له احترامه وليس كما يظنه البعض مجرد خزعبلات. فهو معني بكل ما هو غريب في حياتنا وكل ما يعجز العقل العادي عن استيعابه. ولعل الأمر الواضح في أدبيات الحركات المتمردة على سلطان الدولة في السودان الحديث المكرور عن استئثار طبقة معينة أو عُصبة بعينها على الحكم والمراكز القيادية في الدولة. وسنفترض أن ذلك صحيحا مع تحفظنا عليه لحين الوصول إلى تفسير موضوعي لظاهرة التمرد والخروج على الدولة بل الاستعانة بالغير في محاولات تقويضها ونسف استقرارها.
وفي بحثنا عبر الميتافيزيقا لتفسير الحقد الاجتماعي أو الحسد الذي يقوم على تمني زوال النعمة عن الغير، فقد عدّ الشيخ الغزالي رحمه الله أسباب الحسد سبعة: العداوة، والبغضاء، والتعزز، والكبر، والتعجب، والخوف من فوت المقاصد المحبوبة، وحب الرياسة، وخبث النفس وبخلها. فالحسد غالبا ما يتولد من الحقد، والحقد ناتج عن الغضب بيد أن ذوي المروءة يتنـزهون عن هذه الخصلة.
وقديما قال عنترة:
لا يحمل الحقد من تعلو به الرُتب ** ولا ينال العُلا من طبعه الغضب
كما أن في الحسد سوء أدب مع الله عزّ وجل لأن الحاسد يرى أن الله أنعم على من لا يستحق. ويشكّل الحسد حجابا كثيفا يحجب صاحبه عن رؤية الحق ويصرفه إلى تمني زوال النعمة عن أصحاب النعم وحسب أولئك شرا ودناءة. والحسد كان ذنب إبليس حيث كان حسده لسيدنا آدم عليه السلام لما رآه قد فاق على الملائكة؛ بأن الله خلقه بيده، وأسجد له ملائكته وعلمه أسماء كل شيء واسكنه في جواره، فما زال يسعى حتى أخرجه منها. ومن بعد ذلك وسوس لابن آدم فقتل أخيه.
وإذا ما اعتبرنا أن ما يعتمل في قلوب قادة الحركات المتمردة حقد وحسد أمسك بتلابيب نفوسهم؛ فإن كثيرا مما تأسس عليه حقدهم ليس سوى تصورات وأوهام عنصرية تناقلتها الألسن والأرواح الشريرة فالامتياز الطبقي الذي يرونه ليس سوى امتياز تنويري "الآثم" فيه حركة وانسياب "الحضارة" من الشمال إلى الجنوب فكان المتلقون الأوائل هم السابقون في التعليم والتنوير وبالضرورة كانوا الطبقة الثقافية التي تسّلمت مقاليد الأمور في الدولة، فالأمر ليس "تسلطا" عرقيا بل تفوق علمي بحكم التدفق "القدري" لحركة التنوير والتعليم المرتبطة بالحقبة الحضارية الحالية ونتج عن ذلك مكتسبات اجتماعية، وسياسية، وفي بعض الأحيان اقتصادية. ومن المؤكد إن كل الثقافات السودانية متساوية من حيث القيمة، وليس هناك من ثقافة عليا وثقافة دنيا.
إن الدولة السودانية عليها أن تمضي في محاولاتها لبلورة إجماع وتضامن كاف من اجل تحاشي استمرار العنف والصدام. مع الأخذ في الاعتبار أن الإجماع هو دائماً مسألة مؤقتة، فبعد فترة تطول أو تقصر تظهر فيه حتماً تصدعات وشقوق وبالتالي من الضروري إعادة الكرة وخوض النقاش والتفاوض من جديد من اجل التوصل إلى إجماع جديد، وهكذا دواليك. أما الإجماع العقلاني أو الدائم هو نوع من اليوتوبيا وأسطورة من الأساطير والواقع أن الخلافات أو الانشقاقات الداخلية محتومة، بل ومدعاة للخصوبة والغنى بشرط أن نعرف كيف نسيّرها بطريقة سلمية.


صحيفة الوطن القطرية 15 يونيو 2008

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة