ديمقراطية لبنان "التوافقية" هل تحتاج إلى إعادة إنتاج؟
في ضوء متغيرات جديدة حدثت على الأرض
ديمقراطية لبنان "التوافقية" هل تحتاج إلى إعادة إنتاج؟
ديمقراطية لبنان "التوافقية" هل تحتاج إلى إعادة إنتاج؟
د. ياسر محجوب
كاتب سوداني
لا شك أن كل الحادبين على هذه الأمة قد سرّهم ما حدث في لبنان مؤخرا من توافق بإرادة عربية وهندسة قطرية. ولعل الزخم الإعلامي والسياسي على المستوى الإقليمي الذي حظيت به المشكلة اللبنانية شحذ من همة كل الجهود التي تعاطت مع المشكلة، ولا نقول أن هذا الزخم لا يتناسب مع حجم المشكلة اللبنانية وتأثيراتها الإقليمية ولكن نقول أن هناك كثيرا من المشكلات والمعضلات السياسية على المستوى الإقليمي التي لا تجد إلا النـزر اليسير من الاهتمام والالتفات رغم تأثيرها الكبير والمتعاظم إقليميا ودوليا سواء كان ذلك من الزاوية الجيوسياسية أو من ناحية الجانب الاقتصادي الذي أضحى يلعب دورا مفصليا في قضية الأمن الغذائي خاصة في ظل الضائقة العالمية الحالية التي يتوقع لها الخبراء أن تستمر لعشر سنوات قادمة.
وفضلا عن أن هذا الأمر يُشعر البعض بهامشية وجودهم ضمن المنظومة الإقليمية الواحدة؛ فإنه يشير إلى فقدان بوصلة القضايا الإستراتيجية لاتجاهها.. وبالطبع لا نقصد أن هذه المنظومة فرضها الواقع الجغرافي والجوار الإقليمي فحسب؛ فالعلاقات بين دولها علاقات قديمة قدم التاريخ، وربما تعود إلى أكثر من ألفي سنة تجذرت خلالها روابط الدم، والدين، والثقافة وبالضرورة المصير الواحد المشترك. ولذلك فإن العاطفة والتعامل بردود الأفعال أمور تحتل مكان التخطيط الاستراتيجي والتفكير العميق في العقل الجمعي لهذه المنظومة. فكان محصلة هذا الاختلال هذا التخلف الاقتصادي والسياسي والاجتماعي الذي ترزح تحته هذه الأمة صاحبة الحضارة والتاريخ الناصع.
ولعل من الدروس المهمة في المشكلة اللبنانية أن هناك نظاما سياسيا للحكم تواضع عليه اللبنانيون وأرسيت دعائمه عبر حقب متعاقبة من الحرب واللاحرب، فهو نظام من صناعة لبنانية خالصة وبمواد محلية نشأت وتشكلت من تضاريس الواقع السياسي اللبناني. وهذا النظام السياسي الفريد يحلو للبعض تسميته بالديمقراطية التوافقية، ومحاولاتنا المستمرة لحشر مفهوم (الديمقراطية) وربطه بكل منتج سياسي يدخل في إطار التعلق بالغرب والتمسك بأهدابه وهو أمر ناتج عن عقدة نقص وشعور بدونية تسبب فيه مخاض عسير لنظام دولي جاء نتيجة للحربين العالميتين الأولى والثانية. فكانت الديمقراطية وحقوق الإنسان سيمفونية جديدة وراية غربية مرفوعة تعلن عن حقبة سياسية دولية جديدة فنشأت عصبة الأمم ومن بعدها الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي وغير من المنظمات مسلحة بحزمة قوانين أكثر ما يميزها اختلال ميزان العدل فيها، فمجلس الأمن فيه 5 لأعضاء دائمون لكل واحد مهم حق (الفيتو) أي الاعتراض على رأي الأغلبية. وابتليت منطقتنا فوق ذلك بالاستعمار الجائر ثم اتفاقات ووعود مشؤومة على شاكلة اتفاقية سايكس بيكو ووعد بلفور.
وهلامية مفهوم الديمقراطية أمر ربما كان مقصودا بغرض ذر الرماد على العيون وإتاحة هامش من المرونة يمكّن من الاستخدام السياسي لهذه المفهوم عند الحاجة فتصبح الديمقراطية سيفا مشرعا في وجه الدول والأنظمة المتمردة على النظام الدولي الجديد بمواصفاته المشار إليها. أو أن هذه الميوعة في مفهوم الديمقراطية ناتجة – إن صحة نوايا الغرب وهذا أمر مشكوك فيه - عن خلل بنيوي في الإطار الفكري لعقيدة الديمقراطية في العقل الغربي. وهذا يؤكده أن الطرب الغربي بسيمفونية الديمقراطية لم يعد كما كان في بداية نشأتها فمدينة أفلاطون المثالية كفر بها الغرب في زمننا الحاضر لأن هذه اليوتوبيا التي تناولها أيضا توماس مور (في كتابه يوتوبيا: أو حول الدستور الأمثل للجمهورية 1516م) استبدلت بما يسميه الغرب اليوم بفلسفة عصر ما بعد الحداثة، التي لم تعد تؤمن بوجود العقل المطلق، أو الحقيقة المطلقة وإنما العقل في نظرها نسبي، وكذلك الحقيقة.
والديمقراطية التوافقية في لبنان لها الكثير من المعارضين والمعترضين على أسسها، لأنها تعني أن يكون لكل طائفة نصيبها المتفق عليه من كعكة الحكم بغض النظر عن أقلية أو أكثرية هذه الطائفة أو تلك، ولذا قد كان هناك توافق بين دهاقنة السياسة اللبنانية في وقت سابق بأن يكون رئيس الجمهورية مارونيا، ورئيس الوزراء سنيا، ورئيس مجلس النواب شيعيا. ونتج عن هذا الأمر طغيان ما عُرف بالمارونية السياسية التي وجدت دعما ومساندة غربية مشهودة آنذاك. وألّف آرنت ليبهارت كتابا باسم "الديمقراطية التوافقية في عالم متعدد" صدر عن معهد الدراسات الإستراتيجية في بيروت جاء فيه:"ولدت النظرية التوافقية من الحاجة إلى توسيع ديمقراطية الأغلبية المعهودة، أي منع الأغلبية من التسلط على الأقلية، ومنع الأقلية من تخريب الديمقراطية ذاتها بحجة وجود أغلبية تستبد برأيها".
واليوم هل يحتاج هذا المنتج اللبناني إلى إعادة إنتاجه في نسخة جديدة وموديل يواكب عام 2008 في ضوء متغيرات جديدة حدثت على الأرض؟ هذا تساؤل يستطيع اللبنانيون وحدهم الإجابة عليه. لكن العجيب في أمر هذه الديمقراطية التوافقية أنها تعطي للأقلية حق فرض التوافق فرضا وقسرا علاوة على أنها ترفض حق الأكثرية إذا كانت لا تناسب الأقلية.! وللتوضيح فإن التقسيم الحالي في لبنان (أكثرية وأقلية) ليس هو المقصود لأنه تقسيم مؤقت نتيجة لظرف سياسي معين، فالمقصود هو التقسيم الطائفي المعقد.
عموما فإن ضرورة وجود الدولة لا تعني نفي واضطهاد الرأي الآخر، فالرأي الآخر شرط ضروري في عملية الالتزام بالعقد الاجتماعي. ولابد أن يُنظر لأي معارضة سياسية باعتبارها فنا، بيد أن هناك حتمية لهذا الفن باعتباره فلسفة قائمة على مرتكز أساسي وهو الإيمان الراسخ بوحدة وقدسية الإطار الجيوسياسي للدولة. فالكثير ممن تصدى للعمل السياسي هنا وهناك لا يكاد ينفك من داء المراهقة السياسية فيقع في خلط بين الدولة والحكومة أو النظام السياسي القائم وتستحيل عنده الفواصل بين الاثنين إلى سراب يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئا.
صحيفة الوطن القطرية 4 يونيو 2008
تعليقات