مؤامرة أم درمان.. أحلام تكسرت أجنحتها


هل استخدمت الحكومة مدرسة بوتين في دحر الخصوم؟
مؤامرة أم درمان.. أحلام تكسرت أجنحتها


د. ياسر محجوب الحسين


لقد ظلت ما يسمى بحركة العدل والمساواة تقوم باستمرار بأعمال التخريب والسلب والنهب وقطع الطرق في إقليم دارفور. بل أعلنت بوضوح ودون مداراة أن هدفها الكبير هو الخرطوم رمز الدولة ومركز نشاطها الاقتصادي. لكن هيهات فقد أثبتت الوقائع أنها دنيا من الأحلام بقيت في دواخلهم حتى تكسرت أجنحتها وحطت على أرض مدينة أم درمان الطاهرة فلا هي تقوم ولا هي تنام. وسرعان ما انشق من الفجر مكنون ساطع عن أنباء طرقت سويداء قلوب الحادبين على مصلحة الوطن وفتحت مغاليقها. فقد دُحر الإرهاب في العاشر من مايو بفضل الله ثم بفضل رجال تُسد بهم الثغور وتُتقى بهم المكاره ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاء. وخرجت جماهير الشعب السوداني بتلقائية في الشوارع أرسالا مبتهجة.. جماعة وراء جماعة.
لقد سقط بعض العاقين من أبناء السودان في مستنقع العمالة الآسن فظلت أعناقهم للأعداء خاضعة وخروا على مخططاتهم صما وعميانا. ولاشك أن استعادة أموال العمالة التي خسرتها الحركة في هذه المحاولة الإرهابية أمر ممكن لكن لا يمكنها استعادة سمعتها التي مُرّغت في الوحل. وليس الخلاف السياسي مشكلة تستعدي كل ذلك لأنه ببساطة إذا كانت آراء شخصين متفقة دائما فليست هناك حاجة لوجودهما معاً فأحدهما يكفي. إنها ذكرى «لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد».
وهناك الكثير من الدروس التي يمكن استخلاصها من هذا الحدث الكبير، فقد وقعت الحركة بقيادة خليل إبراهيم في أخطاء عسكرية وسياسية قاتلة؛ فاستخدام الأطفال وقودا في هذه المغامرة فضيحة كبيرة وذنب لا يغتفر. وحسنا فعلت الحكومة السودانية عندما قررت إسقاط المحاكمات العسكرية عن هؤلاء الأطفال وإحالتهم للمنظمات المختصة لإعادة التوازن النفسي إليهم وترميم براءتهم المسلوبة وطفولتهم المحطمة.
ووقعت الحركة في خطأ فادح آخر من خلال اعتمادها على الدعم الأجنبي الذي أشارت الوثائق المضبوطة بحوزة الأسرى إلى ضلوع تشاد المجاورة لإقليم دارفور وربما إلى ما وراء تشاد. وتفاصيل هذا الدعم الذي قدر بـ 150 مليون دولار يتضمن عدد حوالي 300 سيارة دفع رباعي بالإضافة لأنواع أخرى من السيارات كناقلات الوقود وكلها من موديلات هذا العام 2008 وهناك كميات كبيرة من الأسلحة والقذائف والراجمات الحديثة والتي قيل إن بعضها وصل مداه إلى 25 كيلومترا فضلا عن أن الحركة قامت بتغذية حسابات مصرفية جديدة داخل الخرطوم بأسماء أفراد وصفتهم الحكومة السودانية بالطابور الخامس وذلك بغرض توفير السيولة اللازمة لتحركات الحركة.
ومن الأخطاء الكبيرة استهداف المنشآت المدنية مثل مقتل صاحب أحد المصانع في ضواحي أم درمان وكان قد صرف سنين اغترابه في هذا المشروع الذي تعرض أيضا لأضرار مادية كبيرة ويقال إن صاحب هذا المصنع لم يمض على استقراره بالسودان أكثر من 6 أشهر.
كما أن حركة العدل والمساواة التي قامت على أسس اختلطت فيها التوجهات العنصرية بالأيديولوجية تتكون جل قيادتها من أسرة قائدها خليل، فهناك حوالي 25 شخصا ينتمون لهذه الأسرة من بين 27 يمثلون القيادة العليا للحركة. فضلا عن ذلك تكشف ضعف الجوانب الاستخباراتية والمعلوماتية وظهر ذلك جليا من خلال عدم وضوح الأهداف العسكرية للفوج الأول من المتمردين وعشوائية خط سيره.
وعلى الرغم من الجدل الدائر حول الأسلوب الذي تعاطت به الأجهزة الأمنية والدفاعية من جانب الحكومة السودانية، إلا أنه كان من الواضح أن هناك خطة معينة تم تنفيذها. أما مدى كونها كانت خطة ناجعة أو مدى ملاءمتها للوضع على الأرض فهذا أمر آخر يحتاج لمزيد من البحث والتحقيق. بيد أنه يبدو أن الحكومة السودانية استخدمت خطة لعبة الجودو التي يؤمن بها الزعيم الروسي فلاديمير بوتين فعندما سُئل عن أفضل الطرق التي يستخدما لمواجهة خصومه فقال «خطة الجودو» وعندما طُلب منه مزيد من التوضيح قال إن هذه الخطة ترتكز على الاعتماد على قوة اندفاع الخصم وتهوره حيث يتم استدراجه ثم الإيقاع به وطرحه أرضا.. فرغم قناعة الرئيس ديبي بعدم جدوى اقتحام العاصمة السودانية بهذا الشكل إلا أن المعلومات تُشير إلى أن خليل بتهوره أصر عليها وطلب من ديبي ترك الأمر عليه وهذا ما حدث فليس لدى ديبي ما يخسره في هذه المعركة وإن كان نفسه لا يخلو من هذه الخصلة المميتة.
ولا شك أن الحكومة السودانية حققت لأول مرة دعما خارجيا وداخليا لم يتوافر لها من قبل، فالإدانات الدولية صدرت من أعلى المستويات «مجلس الأمن الدولي والولايات المتحدة ولاتحاد الأوروبي وبريطانيا فضلا عن الجوار الإقليمي وجامعة الدول العربية والاتحاد الإفريقي». داخليا تسابقت الأحزاب والرموز السياسية لإدانة هذا العمل الإرهابي فكانت فرصة لتمييز الخبيث من الطيب. ولم يعد لهذه الحركة أي رصيد سياسي تستند إليه فضلا عن خسارتها لكامل قوتها (التدميرية) ولن يتمكن خليل إذا لم يتم القبض عليه أو هلاكه - من إعادة بناء جسم حركته إلا بعد سنين عددا وستكون طامته الكبرى إذا ما نجحت الحكومة السودانية في مسعاها الدبلوماسي لوضعها على قائمة المنظمات الإرهابية.
ومن المؤكد أنه ستبقى كثير من الأسرار طي الكتمان خاصة من جانب الحكومة السودانية فبالرغم من الضغوط التي تطالبها بالكشف عن الحقائق إلا أن المنطق الأمني يجبرها على ممارسة سياسة الغموض والكتمان فضلا عن أن الوقت ما زال مبكرا لإكمال التحقيقات الضرورية ودراسة جميع الوثائق المضبوطة والملابسات التي رافقت هذه القضية.
ولابد أن العقلاء يقفون بشدة ضد اعتماد العنف أسلوبا لحل القضايا السياسية العالقة ويفضلون اعتماد الحوار والمفاوضات أسلوبا وحيدا وفاعلا لحل الخلافات السياسية. وما من وطني صادق يرضى المس بأمن واستقرار المواطنين العزل لأن ذلك خط أحمر لا يجب أن يكون ميدانا لتصفية الخلافات السياسية. كما أنه من المنطقي الوقوف إلى جانب القوات المسلحة باعتبارها صمام أمان تستطيع من خلال نسيجها القومي توفير الأمن الضروري لكافة المواطنين السودانيين. وكل صاحب بصر وبصيرة يدرك أن الاستقرار والأمن الذي وفرته اتفاقيات السلام في جنوب وشرق البلاد يجب أن يكون حافزا لانجاز اتفاق شامل حول قضية دارفور.

صحيفة الوطن القطرية 21 مايو 2008

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة