الديمقراطية بين المفاهيم الهُلامية والامبريالية المقيتة
أداة للسيطرة الاستعمارية ومُخدر مُميت
الديمقراطية بين المفاهيم الهُلامية والامبريالية المقيتة
الديمقراطية بين المفاهيم الهُلامية والامبريالية المقيتة
د. ياسر محجوب
كاتب سوداني
يقولون إن الفكر أكثر نفاذا من القانون لكن مفهوم الديمقراطية وهو مفهوم هُلامي لم يتمكن من الانحياز لأي واحد من الاثنين وبقي حائرا لا هو فكر ولا هو قانون. وظل إطاره النظري كالحرباء تغير لونها أينما ذهبت، فأصبح يتقلب بين عدة مفاهيم تتغير بتغير الزمان والمكان، لقد نمت الديمقراطية وتطورت أسسها الفكرية والنظرية وآلياتها العملية في أرض معينة وعلى خلفية ظروف تاريخية عاشتها المجتمعات المسيحية الغربية آنذاك. لكن هذه الديمقراطية غدت فيما بعد عُرضة للاستغلال السياسي البشع وأداة استغفال طيعة في يد الدول الكبيرة في مواجهة الدول الضعيفة وأبدت النخب في هذه الدول المستضعفة استعدادا كبيرا للقيام بدور الكومبارس تحقيقا لمصالحها الشخصية الضيقة، فعندما يتحدث أحدهم بـ"فضائلها" تحسب أن الكون كله يعزف نشيدا.
ويبدو أن كتابات كل من أفلاطون وأرسطو شكّلت بداية متواضعة لمفهوم الديمقراطية، خاصة أن كِلا الفيلسوفين أكد على ضرورة وجود الحكومة الرشيدة القوية الخاضعة للقانون. فالدولة بالنسبة إليهما يجب أن تقوم على مبدأ مشاركة الشعب في السلطة وخضوعه للقانون. وكان أفلاطون (374م - 427م) يُفضّل قيام الدولة الأرستقراطية، من خلال النظر إليها باعتبارها دولة ذات صبغة عقلانية وطبقية، قائمة على أساس موافقة المحكومين وقبولهم، ويكون فيها الحُكّام هم الأوصياء على الصالح العام، كما حاول جون لوك (1632- 1704)، وهو فيلسوف بريطاني، إعطاء أول مفهوم فلسفي - سياسي لـمفهوم (الحكومة المدنية)، التي تقوم على الانتخاب والدستور في مجتمع تعددي بعيداً عن سلطة الملك المطلقة أو هيمنة الكهنوت. ولذلك نجد حتى اليوم أن هناك رؤى مختلفة لمسألة الديمقراطية بل نجد جمعا فاضحا بين نظام الملكية وبين نظام الحكم الحر كما في بريطانيا وأسبانيا وهولندا وغيرها من الدول الأوروبية التي يُطلق عليها تعبير دول ديمقراطية. وها هي الصين تدعي نَوعاً آخر من الديمقراطيّة تسميها الديمقراطيّة الاشتراكيّة.
ودول العالم الثالث في نظر الدول العظمى على شقين: دول لا تطبق الديمقراطية لكنها تسبح في فلكها وتُسبّح بحمدها فلا تُرفع في وجهها عصا الديمقراطية؛ ودول أخرى تغرّد خارج السِّرب وتحاول شق طريقها وفقا لمصالحها الوطنية، وهذه مغضوبٌ عليها ويجب إطلاق عقال منظمات حقوق الإنسان لتنال منها وأيضا تجنيد النُخبة السياسية من بنيها ضدها. وليس خافيا أن الدول العظمى لا تريد حكم الشعب أبدا في مجتمعاتنا وهذا ما فعلته في الجزائر عام 92، عندما أوشكت جبهة الإنقاذ على الفوز في الانتخابات.
ومفهوم الديمقراطية في أطره الكلاسيكية يمكن الإشارة إليه على إنه النظام السياسي الاجتماعي الذي يؤسس العلاقة بين أفراد المجتمع والدولة وفقا لمبدأ المساواة بين المواطنين ومشاركتهم الحرة في صنع التشريعات التي تنظم حياتهم العامة. وهي كذلك العملية السلمية لتداول السلطة بين الأفراد أو الجماعات، التي تؤدي إلى إيجاد نظام اجتماعي مميز يؤمن به ويسير عليه المجتمع ككل على شكل أخلاقيات اجتماعية. ولأن مصطلح الديمقراطية يستخدم لوصف أشكال الحكم و المجتمع الحر بالتناوب، فغالباً ما يُصدم البعض لأن دعاة الديمقراطية زينوا له أنه عادة ما تعطيه زخارف حكم الأغلبية كل مزايا المجتمع الحر. ففي الوقت الذي يمكن فيه أن يكون للمجتمع الديمقراطي حكومة ديمقراطية فإن وجود حكومة ديمقراطية لا يعني بالضرورة وجود مجتمع ديمقراطي. لقد كان لدخول الرأسمالية في طور الإمبريالية التي تعتبر الرأسمالية في أعلى مراحل تطورها، منذ نهايات القرن التاسع عشر وما ترافق مع ذلك من زيادة التنافس الدولي على الأسواق والاتجاه نحو ما يُعرف بحماية البضائع المحلية وهو الأمر الذي يقف اليوم عقبة كأداة أمام مفاوضات التجارة الحرة المتعثرة، كل ذلك كان منذراً بزيادة الأخذ بمبدأ القوة العسكرية الأمر الذي أدى إلى عودة دور الدولة القوي على حساب (المجتمع) و(الفرد).
لكن هل بالإمكان زرع الديمقراطية بثوبها الكلاسيكي الغربي في مجتمعاتنا العربية والإسلامية؟ الإجابة ببساطة لا؛ لسببين مهمين: فالزراعة تحتاج لأرض خالية أو تقوم فيها حشائش غير مرغوب فيها ويمكن إزالتها، وهذا ما لا يتوفر في مجتمعاتنا ذات التقاليد الراسخة، فالحضارة العربية بكل مكوناتها الدينية والاجتماعية والثقافية ضاربة جذورها في أرضنا ولا يمكن اقتلاعها، فهناك من الأمثلة على الحكم الراشد عبر التاريخ ما يضيق بذكره هذا الحيز الضيق، وهي أمثلة واضحا وبينة تحدّث عن نفسها وشهد لها الأعداء قبل الأصدقاء. أما السبب الآخر فلأن الديمقراطية مازالت مفهوما هلاميا وأفيونا يستخدم لتخدير الشعوب الضعيفة خدمة لمصالح الدول العظمى. فضلا عن أن مفهوم الديمقراطية مفهوم ذو اتجاه فكري علماني وهو بهذا المعنى لا وجود له في الإسلام، لان الفكر السياسي الإسلامي ظهر قبل أن تعرف أوروبا تطبيق مبادئ الديمقراطية. ويقوم الحكم في الإسلام على مبدأ الحاكمية لله، وكذلك على أيديولوجية منسجمة مع طبيعة الإنسان ورغبته في تحقيق الحرية والعدالة والمساواة. والدولة الإسلامية ليست دولة تسلطية كما يصوّرها العقل والإعلام الغربيان إنما التحيز الإيديولوجي للغرب يجعله يتهم الإسلام بالدكتاتورية وحكم الفرد في محاولة صريحة ومتعمدة لتشويه الحقائق وتزييف الواقع. وخلاصة الأمر أن الشورى وإن أراد البعض تسميتها "ديمقراطية" تبقى نظاما راشدا ومثاليا للحكم في مجتمعاتنا، وقديما قال وليام شكسبير "بأن الوردة بأي اسم آخر تبقى وردة". وحتما بعودة الوعي تتم اليقظة ثم تتولد البصيرة فينشأ العزم وتتولد الإرادة.
صحيفة الوطن القطرية 19 ابريل 2008م
تعليقات