الصراع السوداني – التشادي فجوة ثقافية أم تركة استعمارية

دعاة الزنجية وطمس الهوية الإفريقية
الصراع السوداني – التشادي فجوة ثقافية أم تركة استعمارية


د. ياسر محجوب
كاتب صحفي سوداني


الحقيقة الماثلة أن الرئيس التشادي إدريس ديبي وصل إلى الحكم في 1990 بدعم من الحكومة السودانية التي كانت في عنفوانها العروبي والإسلامي والمفارقة أن من يدعم ويساند المعارضة ضد ديبي اليوم، العديد من القبائل العربية التي تتوزع بين تشاد والسودان، فيما ارتمى ديبي بالكامل في أحضان فرنسا وكرس لعودتها إلى تشاد في ثوب استعماري جديد. وكنوع من المكايدة السياسية عمد ديبي إلى إطلاق سراح الفرنسيين المتهمين ببيع أطفال دارفور لأسر فرنسية وهي قضية إنسانية شغلت الرأي العام لكنها لم تجد الاهتمام من منظمات حقوق الإنسان المرتبطة بالمنظومة الغربية. ومن المعلوم كذلك أن الرئيسين السابقين لتشاد جوكوني عويدي 1978 وحسين هبري 1982 وصلا إلى السلطة بدعم سوداني وهذا ما يؤكد الارتباط الوثيق بين البلدين وهو ارتباط تاريخي وليس عارضا أو مرتبطا بنظام حكم معين حيث أن آخر ثلاثة رؤساء لتشاد جاءوا في عهد ثلاثة رؤساء للسودان وهم على التوالي جعفر نميري، والصادق المهدي، وعمر البشير.
إن عناصر المقارنة بين التركيبة الاجتماعية والثقافية في كل من السودان وتشاد بارزة وواضحة ومتعددة ومن ينكرها يغدو كمن يحاول إزاحة الشمس من أديم السماء. فقد شهدت الأجزاء الشمالية في كلا البلدين قيام دول إسلامية تأثرت تأثرا قويا بهجرات القبائل العربية التي انداحت من الشمال والشرق وقد التي وجدت في أراض السودان وتشاد امتدادا طبيعيا لحياة البدو العرب من البيئة الصحراوية. وكان لكثافة تدافع الهجرات العربية أن غدت العربية والإسلام مقومين أصيلين من مقومات المجتمع في تلك المناطق التي انقسمت فيما بعد بفعل الهجمة الاستعمارية بين السودان وتشاد. وقد كان حكام الدول الإسلامية هناك ينتسبون إلى أصول عربية ويحكمون بشريعة الإسلام ويتخذون العربية لغة في دواوينهم ومعاملاتهم وكان جراء ذلك أن أصبحت العربية اللغة المشتركة لجميع السكان على الرغم من وجود جماعات عديدة غير عربية ظلت تحتفظ بلهجاتها. وكان لانتشار اللغة العربية في دارفور على حساب لغات المجموعات المحلية التي اعتنقت الإسلام دلالات ومعان مهمة فالعامل الديني كان له فعالية وأثرا كبيرا في تخلي أصحابها عنها.
ولكون السياسة تعتبر تعبيرا عن أي مجتمع من المجتمعات بأبعاده التاريخية والثقافية والاجتماعية فقد حرصت الفعاليات السياسية في تشاد في الوقت الحاضر على اعتبار اللغة العربية لغة رسمية في الدولة فضلا عن كونها لغة حوار سياسي مشتركة توحّد جميع فئات المجتمع التشادي. وليس من صالح أي كيان حزبي المساس بأحد أركان الهوية التشادية المتمثل في الثقافة العربية والإسلامية خشية وطمعا في ولاء المواطن التشادي وحرصا على مشاعره الوطنية. ولذلك كله عمد الاستعمار الفرنسي لتشاد إلى طمس وأبعاد التراث والكتب التي ألفتها القيادات الدينية في مملكة وداي التشادية على وجه الخصوص. وذلك في إطار سياسة منهجية تهدف إلى عدم إبراز أي نموذج للقيادات والجماعات العربية والإسلامية التي لعبت أدوارا اجتماعية وسياسية.
وتعرضت المجتمعات الإفريقية خاصة تلك التي تأثرت بالثقافة العربية والإسلامية في خمسينيات القرن الماضي لقصف مدفعي ثقافي مضاد من قبل الاستعمار بعد أن بسط سيطرته العسكرية فلم يجد بُدا من محاربة المكون الثقافي الذي ترسخ بفعل قوة دفع الحضارة العربية والإسلامية التي سبقته إلى تلك الأرض البكر. فروج إلى فكرة الإفريقية Africanism أو الزنجية Negritude والتي وجدت دعما قويا من المؤسسات التنصيرية العاملة في إفريقيا. وهي فكرة تبناها وروج لها الابن الوفي للاستعمار الفرانكفوني ليبولد سينغور (الرئيس السنغالي الأسبق) بتأييد أوربي ولبوس اشتراكي، بهدف توسيع الشقة بين العرب والأفارقة سعيا لـتأمين المصالح والمكاسب الأوروبية التي فرضها الواقع الاستعماري. وتأكدت تبعية دعاة الزنجية للفكر الغربي عندما أعتبر سنغور اللغة الفرنسية لغة رسمية لفلسفة الزنجية داعيا إلى اعتمادها لغة للتواصل بين الزنوج لأنها بزعمه لغة الحضارة ولم يكن الأمر مختلفا في جانب أقرانه الناطقين بالانجليزية. وكان – ومازال- همّ دعاة الزنجية إغفال الإشارة إلى الإسلام والثقافة العربية والاعتراف بأنهما ظلا يساهمان في تعميق الشخصية الإفريقية ابتداءً من العصور الوسطى وحتى تاريخ الدويلات والإمبراطوريات الإسلامية الني أشير إليها أعلاه والتي احتضنت مدنا كانت من أهم مراكز الإشعاع الحضاري والثقافي والعلمي، وعموما كانت فترة بقاء الثقافة العربية والإسلامية هي الأطول على الإطلاق مقارنة بالفترة الاستعمارية الأوروبية والتي كانت دون شك على قصرها من أحلك العقود التي مرت بالشعوب الإفريقية.
إذن يبدو أن التركة الاستعمارية الثقيلة وليس العامل الثقافي، تقف حتى اليوم حجر عثرة في وجه محاولات الإصلاح بين السودان وتشاد وقد تم حتى اليوم توقيع ثلاث اتفاقيات بين البلدين آخرها على هامش قمة داكار الإسلامية في مارس الماضي. وستبقى آفاق الحل بعيدة مادامت الأصابع الاستعمارية ممسكة بتلابيب بعض أطراف النزاع. وإذا كانت الحكومة السودانية مازالت قادرة على ممارسة ضبط النفس فإن استمرار التصعيد من جانب تشاد قد يدفع الطرف السوداني إلى التعامل بالمثل وربما تحولت هجمات المجموعات المدافعة عن نفسها في دارفور ضد حركات التمرد المنطلقة من تشاد إلى هجمات منظمة ومقننة تطال أرض تشاد وهو ما لا تستطيع الحكومة التشادية مجاراته.


صحيفة الوطن القطرية 9 ابريل 2008

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة