BBC العربية متطفل جديد على "كعكة" الرأي العام العربي

على شاكلة قنوات الإستعمار الجديد.. "الحرة" الأمريكية وفرنسا 24
BBC العربية متطفل جديد على "كعكة" الرأي العام العربي

د. ياسر محجوب الحسين*

بعد التغيير الكبير والمتصاعد في البيئة الإعلامية على المستوى الدولي من حيث التطورات التقنية ومن حيث مزاج المتلقين عمدت العجوز البريطانية الـ"BBC" التي مر عليها زهاء 75 عاما إلى تطوير أساليبها الماكرة في التأثير على الشعوب الأخرى المغلوبة على أمرها بحيث يضمن لها هذا التأثير استمرار النهج الاستعماري المعروف عنها، هذا النهج الذي بنت عليه بريطانيا والغرب عموما رفاهيته الاقتصادية وحضارته المزعومة. فلم يكن هناك بد من تطوير الاسلوب الكلاسيكي لإذاعة القسم العربي على أقل تقدير من حيث الشكل فخرجت علينا قناة الـ"BBC" العربية في كامل زينتها في محاولة لمضاهات القنوات العربية العملاقة مثل قناة الجزيرة. فالواقع الجديد الذي خلقته الجزيرة في الساحة الإعلامية العربية على الأقل قلب المعادلات الاستعمارية التي سادت ثم بادت فأصبحت نموذجا يحتذى وأسوة حسنة تتبع، حتى أن "الجزيرة" لو دخلت جحر ضب لدخلت القنوات الأخرى من ورائها مقتفية أثرها. ورغم أن الـ"BBC" دخلت ميدان القنوات الإخبارية الموجهة إلى الرأي العام العربي قبل "الجزيرة" في 1994 بعيد توقفها إلا أن ولادة قناة الجزيرة بعد ذلك وتسيّدها لساحة الإعلام العربي أجبر الـ"BBC" مرة أخر على التواجد في الساحة العربية وبنفس شبه وملامح "الجزيرة". ومثلما اعتمدت الجزيرة في بدايتها على كوادر من الـ"BBC" المتوقفة، تعتمد هذه القناة اليوم بعد معاودة الكرة على كوادر من "الجزيرة" وقنوات عربية أخرى.
وتدخل محاولات بريطانيا عبر الـ"BBC" لاستباحة الرأي العام العربي في إطار الاستخدام والتوظيف السياسي للإعلام، فلم يعُد يُخفى الدّور المتعاظم لأجهزة الإعلام ليس في تشكيل الرأي العام فحسب وإنما في صياغة حياة أفراد المجتمع بأكملها صياغة كاملة؛ تمشياً واستجابةً لنظم سياسية واقتصادية واجتماعية تسود المجتمع، ومع اتساع دائرة العولمة أصبح هذا الدور أكثر وضوحاً في صهر اتجاهات أفراد المجتمع وتشكيلها وصياغتها. وفي خضم وضغط تيار العولمة الكاسح لا يعجب بريطانيا أو الغرب أن تجتهد بعض الأجهزة الإعلامية في عالمنا العربي لأجل أن تؤسس لنفسها دوراً قومياً للتصدي لأخطار هذا التيار ومهدداته، فهذا التيار كما يراه البعض ليس شيئا سوى الثقافة الغربية، أو هكذا يراد أن تكون العولمة ثقافة تُعمّم، وذوقاً واحداً يفرض على جميع البشر، تُلغى بموجبهما الاختلافات والتمايزات الحضارية.. فباسم التعددية العالمية وباسم الثقافة الإنسانية يتم التعدي على الثقافات غير الغربية، وتجاوز الخصوصيات الاجتماعية، فهي كما ينظر لها البعض رديفا للبرجوازية الأوروبية. وتاريخيا سبق للسياسات الإعلامية للدول الاستعمارية منذ الحرب العالمية الأولى ثم الثانية أن سعت إلى استخدام وسائل الاتصال سياسياً بهدف الوصول إلى نتائج محددة تهدف إلى التأثير على الرأي العام. ويُنظر إلى الإعلام الفضائي، على أنه من أهم أدوات الصراعات الدولية في الوقت الراهن.
ومن حق إعلام ينتمي إلى حضارة أصيلة ضاربة الجذور، كالحضارة العربية الإسلامية، أن يُكافح أية تشوهات تتربص بحضارته، بل لزاما عليه أن يسعى إلى إحداث تغيير إيجابي في الرأي العام سواء على الصعيد الداخلي أو الخارجي، إضافة إلى إيضاح الحقائق وإقامة جسور التفاهم من خلال استخدام شتى الفنون الاتصالية، ومن الواجب عليه كذلك مواجهة المشروعات السياسية التي ظلت تطرح منذ مؤتمر مدريد للسلام في الشرق الأوسط في بداية تسعينيات القرن المنصرم، والتي لم تنتهي عند "الشرق أوسطية" التي طرحها الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز بعد اتفاقيات أوسلو، ثم فيما بعد "السوق الشرق أوسطية". ومشروع الشرق الأوسط الجديد ليس إلا ستاراً أرادت له أمريكا وبريطانيا وربيبتهما (إسرائيل) أن ينطلق من لبنان في يوليو 2006م مع الحرب الهمجية التي تحمل وزرها (إسرائيل) بغطاء أمريكي – بريطاني. ونعلم أن وزيرة الخارجية الأمريكية كونداليزا رايس وصفت تلك الحرب بأنها "آلام مخاض لولادة شرق أوسط جديد" وهو إعلان وتأكيد على الهدف الكامن وراء الحرب. وتغيير الواقع السياسي سيتبعه بالضرورة في تغيير الواقع الثقافي ومن ثم تغييرٌ في الأنماط الاستهلاكية، ويشمل ذلك كل أنواع البضائع والسلع بما فيها البضائع الثقافية كالأفلام والبرامج المعلبة ونحو ذلك.
ولعل كل ذلك يشير إلى البيئة والظروف التي تعمل من خلالها الـ"BBC" المتطفل الجديد على الرأي العام العربي والتي تأتي ضمن سلسلة القنوات الاستعمارية الناطقة باللغة العربية مثل وفرنسا 24 و"الحرة" الأمريكية، التي قالت عنها صحيفة نيويورك إن الهدف من وراء إطلاقها أن تشكّل الرد الأمريكي "العادل والمتوازن" على وسائل الإعلام العربية مثل قناة الجزيرة، وتعتبر "الحرة" أكثر المشاريع الإعلامية العالمية التي ترعاها الحكومة الأمريكية طموحا منذ انطلاق بث إذاعة "صـوت أمريكا" في العام 1942م. كما لم يستبعد كريس كرايمر مدير شبكة الأخبار الدولية CNN إنشاء محطة عربية مستقبلاً كما تفعل الـ"BBC"، وقال: "لدينا موقع عربي على الانترنت وهو صغير لكنه ناجح. ولقد درسنا احتمال البدء بشيء ما في مجال الأخبار باللغة العربية أو الأعمال. ولا يمكنني أن أستبعد ذلك، إذ إنه مجال مزدحم وضبابي". وها هي (إسرائيل) تسعى بعد إعلان مقاطعتها لـ"الجزيرة" لإنشاء فضائية ناطقة بالعربية.
ولعل الدعاوى الغربية باستقلالية الإعلام وحيادية الطروحات لم تعد تنطلي على الكثيرين -على الأقل المثقفين منهم - ولا يزايد على ذلك إلا من كان ملتحقا بالمشروع الغربي أومتمردا على قيمه الثقافية والحضارية، فالـ"BBC" سيصل الدعم المقدم لها من الحكومة البريطانية بوصول بثها إلى 24 ساعة يوميا إلى حوالي 90 مليون دولار سنويا. فهل هذا الصرف يتم لوجه الله ومن أجل المساهمة في تقليل البطالة في الوطن العربي بتشغيل عددا من الإعلاميين العرب؟! نايجل تشامبان مدير القسم العالمي بالـ"BBC" يقول بوضوع وبدون مداراة عن السياسة التحريرية للقناة الجديدة: "إنهم سيتبعون بالضبط القيم التحريرية التي يتبعها أي قسم آخر لهيئة الإذاعة البريطانية". وعليه فإن من السهل على الـ"BBC" أن تعمل على تنفيذ السياسة الخارجية البريطانية بكل "حرفية" فالحقيقة الثابتة أن الإعلام يستطيع أن يُغير من آراء بعض الناس بطريقتين، الأحداث التي يختار الإعلام تقديمها ويبرزها ويسلّط الضوء عليها، والكيفية التي يتم بها معالجة تلك الأحداث وطريقة تحليلها والتعليق عليها.
وبعيدا عن حديث الغرب الكلاسيكي عن حرية الإعلام والديمقراطية، لنتفق جميعا على أن الإعلام أصبح أداة من أدوات السّياسة، ينقل سياسات صناع القرار إلى الشعوب، ويبلور اتجاهات ومواقف الشعوب حتى يستفيد منها صنّاع القرارات؛ ووسائل الإعلام تؤثر أيضا في عملية صناعة القرارات المتعلقة بالعلاقات الدولية وتتدخل الحكومات في الإعلام لأسباب سّياسية تتعلق بالانتماء والشعور بالوطنية وكذلك بترسيخ القيم والمعتقدات السّياسية. لكن يصبح التوظيف السياسي للإعلام جريمة تحارب عندما تستند النوايا السياسية غلى أهداف استعمارية تتلخص في الوقت الراهن في محاولات إعادة رسم خريطة المنطقة والتمكين لإسرائيل ومحاربة وإلغاء الكيانات الثقافية الأخرى. وحسب توصيف الجامعة العربية فإن الإسلام واللغة العربية يمثّلان الظاهرتين، الثقافيتين، السائدتين في العالم العربي. ومن البديهي أن يصبحا هدفا لهجمات الأعداء لأن فيهما بقاء الأمة وعناصر قوتها، فالشعوب العربية رغم أنها تعيش علي مساحة واسعة، تستمتع بروابط تاريخية، وتقليدية موحدة.
إن الرأي العام العربي لم يعد محصنا ضد الأعداء كما كان الأمر في سالف العصر والزمان مثل سوق عُكاظ الشهير الذي كان صورةً حيةً من صور مؤسسات الرأي العام كوعاءٍ أوسع يجمعُ كل عرب الجزيرة العربية، وكان سوق عُكاظ بجانب أغراضه التجارية معرضا عاما ومجمعا لُغوياً بارزا. أما اليوم فإن السماوات المفتوحة غدت مدخلا ومعبرا لكل متطفل وصاحب نوايا خبيثة. إن المعركة حول الرأي العام معركة شرسة تتطلب الاستعداد بالأدوات اللازمة، ولابد للحكومات والمؤسسات العربية ذات الصلة أن تعي متطلبات هذه المعركة وأن تولي قضية الرأي العام أهميته، وضرورة التأكد من مدى اتساق اتجاهاته مع المقومات الفكرية للأمة العربية في شتى المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية.

* صحافي سوداني مقيم في قطر

عن جريدة "الصحافة" عدد 19 مارس 2008

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة