الحركة الشعبية.. زوبعة فنجانية بنكهة درامية
الحركة الشعبية.. زوبعة فنجانية بنكهة درامية
ياسر محجوب
صحفي سوداني
حينما نكون أمام الدراما فنحن بالضرورة أمام قصة، وأكثر تعريفات الدراما دلالة أنها "قصة ممثلة" واليوم نحن أمام دراما من انتاج الحركة الشعبية في السودان الشريك المتوتر في الحكم، حيث تحولت الفكرة غير المعقولة في أذهان العقلاء وهي إضراب الوزراء إلى دراما بعد أن تحولت إلى فعل وواقع معاش ومذهل. ولا ندري إن كان سلفاكير ميارديت قائد الحركة الشعبية هو الذي وحده يتحمل أعباء كتابة النص والسيناريو ودور البطولة أم أن هناك لاعبين من الخارج ومن داخل الحركة نفسها؟ لكن يبدو أن امكاناته الفنية وحدها لا تكمنه من انتاج ورعاية عمل "فني" بهذه الضخامة. لأن سلفا كير قائد طارئ للحركة وجد نفسه في صدارة الأحداث دون سابق إنذار بسبب الغياب المفاجئ لقائدها السابق جون قرنق الذي طالما كان في حالة خلاف معه في أغلب الأوقات وتعمد تركه منزويا في أدغال غابات الجنوب لا يسمع ولا يرى. ونعتقد أن الخلاف السياسي بينهما إن تجاوزنا عامل صراع الأجنحة داخل قبيلة الدينكا ليس أساسيا حول أطروحة "السودان الجديد" الخالي من الثقافة العربية والإسلامية لكنه يبدو أنه ينحصر في طرق ووسائل تحقيق ذلك الهدف غير النبيل. وسبب هذا التباين نتج عن تمتع قرنق بخبرة سياسية مرفودة بقدرة على المناورة بينما سلفاكير لم تترك له الغابة وأدغالها أي فرصة ليكتسب أي خبرة سياسية فهو يريد الوصول لهدف "السودان الجديد" بأسرع فرصة ودون وضع أي اعتبار لأي معطيات على أرض الواقع.
وسلفاكير رجل انطوائي يميل إلى العزلة ويتدثر بالغموض، ولا يمكن الخروج بأي انطباع في حالة محاولة قراءة تقاسيم وجهه الجامدة والصارمة فهو بخيل بإبداء أي مشاعر لمحدثه فلا يمكن أن تعرف ما إذا كان سعيدا أو غاضبا. ولد سلفاكير فى منطقة قوقريال، وهى أحد معاقل قبيلة الدينكا في منطقة بحر الغزال، وهي الفبيلة التي تسيطر على الحركة وتُمسك بكل خيوطها ومفاصلها لكن هذه القبيلة نفسها واقعة تحت ضغط فروع مختلفة تتنازع الغلبة فيها. وفرع الدينكا قوقريال أكبر فروع الدينكا، بخلاف فرع دينكا بور الذي ينتمي إليه جون قرنق، وميزة انتماء سلفاكير لفرع قوقريال تمنحه تأييدا واسعا وبشكل تلقائي داخل الحركة. لكن هذه المقومات كانت تتضاءل أمام كاريزمية قرنق الذي لعب في الحركة كل الأدوار تقريباً فقد كان القائد العسكري والمفكّر السياسي ورجل الدبلوماسية، ممسكا بكل الخيوط، ولا يتورع في استخدام القوة المفرطة ضد أى محاولة لمعارضته. ولذلك كان سلفاكير يتهم قرنق دائما بأنه يحمل الحركة معه في حقيبته حينما يسافر في محاولة منه لتوصيف مدى استئثاره بمقاليد الأمور.
وبسبب هذه الخلفيات جاءت المشاركة السياسية للحركة الشعبية في حكومة الوحدة الوطنية بقيادة سلفاكير ضعيفة ومتذبذة بصورة أقلقت شريكها حزب المؤتمر الوطني قبل أن تقلق أي جهة أخرى وربما احتارت الذئاب المتربصة بالسودان في كيفية تحريك نمر الحركة الشعبية الورقي لتحقيق أهدافها الشريرة في السودان. وهناك عدة مؤشرات على هذا الضعف نشير إلى بعضها على سبيل المثال لا الحصر، فبعد المؤتمر الصحفي المشترك بين الرئيس البشير ونائبه الأول سلفاكير الذي أعلن فيه انتهاء الأزمة الأخيرة طفق الأخير يجول الولايات المتحدة الأميركية يكيل خلال هذه الزيارة الاتهامات إلى شريكه في الحكم وهو أمر يناقض مع ما صدر في ذلك المؤتمر الصحفي بحضور سلفاكير نفسه. وقصة هذه الزيارة قصة درامية أخرى وقد تم ترتيبها بعيدا عن وزارة الخارجية السودانية عبر "سفارة" الحركة في واشنطن. فهل يخشى سلفاكير مواجهة شريكه؟ أم أن عدم ثقته في قدراته السياسية تجعله عرضة للاستجابة للضغوط المختلفة؟ إذا لم يقتنع سلفاكير بانتهاء الأزمة التي أدت لإضراب وزرائه لماذا صمت حينا في المؤتمر الصحفي ونطق كفرا في أميركا؟ قال سلفاكير أن الرئيس البشير يحاول شراء الحركة بالمناصب والمال؟! إذن لماذا كانت الحركة تصر على مناصب ووزارات بعينها لماذا تصر في كل مرة على أن أموال البترول لا تعلم عنها شيئا ثم تبصم بعد ذلك بالعشرة على صحة الحسابات! يقول سلفاكير أن البشير استدعاه من الجنوب لأمر عاجل وأرسل إليه طائرة خاصة وذهب من المطار للقصر مباشرة. وكل هذه الأمور عادية بل أن هناك تقدير للرجل وأهميته والحرص على إشراكه في أمور الحكم. لكن سلفاكير نتيجة لتراكمات نفسية سنشير إليها لاحقا - وبالتأكيد ليس للبشير ولا للمؤتمر الوطني يد فيها - رأي أن في ذلك الاستدعاء وما صاحبه من وقائع ضرورية وعادية تحقيرا له لا سمح الله ولا ندري ما هو وجه التحقير؟!
إن أزمة الثقة بين الشركين أمر ليس بالجديد وإنما هي معضلة تكرست من قبل أن يظهر الطرفان على الساحة السياسية السودانية. فعلى مر العقود الماضية منذ استقلال السودان في العام 1956م أو منذ ما قبل ذلك تميزت العلاقة بين النخب الجنوبية ونظيرتها الشمالية بتوتر مستمر فالطرف الجنوبي ظل قابعا في معتقلات عقد النقص والشعور بالدونية ولذلك أسباب تاريخية معروفة تتجاوز القطر السوداني لتشمل بتداعياتها المؤلمة سائر المجتمعات البشرية وعبر كل الأزمنة والعصور الإنسانية. ومع التنوع العرقي تأتي المشكلات السياسية التي صنعها وغذاها الاستعمار. ويعرف القاصي والداني قانون المناطق المقفولة الذي طبقه الاستعمار البريطاني في السودان، وقد أضاف البريطانيون لعامل التباين العرقي، العامل الثقافي حيث استهدف القانون المذكور الحد من الاندياح الطبيعي للثقافة العربية فبدلا من أن يقتصر التباين على العرق فحسب وتتم الوحدة الثقافية نتيجة للتواصل والإنسياب الطبيعي بين طرفي البلاد فقضى ذلك القانون المشؤم على هذه الفرصة. وبشكل عام أفرزت البيئة الإفريقية بسبب ما دخل إليها من تأثيرات خارجية إمكانية نوعين من التعددية: الأولى التعددية الاجتماعية والأخرى التعددية الثقافية. وفي كثير من الأحيان وصل الأمر إلى تطابق النوعين داخل الدولة الإفريقية، مما جعل من الصعوبة وصف الجماعات المتنافسة والمصطرعة بأنها جماعات عرقية فحسب، فهي بالاضافة إلى ذلك أصبحت جماعات ثقافية ولغوية ودينية وإقليمية. وارتباط التعددية الاجتماعية بالتعددية الثقافية يزيد من حدة المشكلة ويقوي الصراعات. ولاشك أن هذه هو هدف الاستعمار ومازال هدفه وهو في لباسه الجديد المعولم والعراق خير شاهد على ذلك حيث اختلط الحابل بالنابل نتيجة لإثارة التباينات العرقية والجهوية والدينية.
إن ما هو جديد في حرب الجنوب المنتهية بتوقيع اتفاقية نيفاشا هجرة ضحايا الحرب إلى شمال البلاد حتى تكاد الخرطوم أن تصبح عاصمة إفريقية خالصة وتريفت المدينة في مظهرها وهذا أمر قد يكون ايجابيا في سبيل جعل التباين بين الشمال والجنوب قاصرا على الجانب العرقي أي أن تتوحد الثقافة التي تجمع بين الطرفين. لكن المسرحيات الدرامية والزوابع الفنجانية التي تحدثها الحركة الشعبية تسير بالأمور في اتجاه مضاد وتصب الماء الدافئ على الخميرة الاستعمارية التي وضعتها بريطانيا بعناية قبيل خروجها المذل من السودان. ليعلم سلفاكير أن المؤتمر الوطني لا يملك بعد اليوم تقديم أكثر مما قدم من تنازلات عبر نيفاشا فهناك الكثير من القوى تضجرت من هذا السلوك الصبياني الذي تنقصه الحكمة السياسية وليتبين بوضوح هامش المناورة السياسية المتاح له التحرك فيه ولينتبه لأعدائه داخل الحركة الذين يريدون حرقه سياسيا تمهيدا للجلوس في مكانه إنهم بوضوح الشمس.
قناعتي أن السودان اليوم واقع بين ضغوط التخلف وضرورات النهضة وتتجاذبه إثر ذلك قوتان الأولى تقود المعركة لجر مكونات المجتمع السوداني للقرن الواحد والعشرين والثانية تريد لهذه المكونات أن تبقى غاطسة في أوحال العصر الحجري.
حكمة: عدو عاقل خير من صديق جاهل.
صحيفة الوطن القطرية 14 نوفمبر 2007
تعليقات
حيث اننا بصدد تأسيس رابطة المدونين السودانيين ، فنرجو تكرمك بزيارة المدونة المخصصة لهذا الغرض و مشاركتك معنا في النقاش و للخروج بالبيان التأسيسي و إنتخاب اعضاء اللجنة
ولكم الشكر
رابط المدونة هو:
http://sudanese-blogger.blogspot.com