جبروت الإعلام في عصر ما بعد الحداثة.. دارفور نموذجا
نمط الحياة البدوية والثقافة المتوارثة مكوّن أساسي للتقارير الظالمة
جبروت الإعلام في عصر ما بعد الحداثة.. دارفور نموذجا
جبروت الإعلام في عصر ما بعد الحداثة.. دارفور نموذجا
ياسر محجوب
كاتب وصحفي سوداني
من المؤكد أن للإعلام هيمنة وسلطة وجبروتا، لكن عندما يبقى أمر هذه السلطة في يد قوى عظمى غاصبة تدخل الحقيقة في نفق مظلم لا نهاية له. ولابد أن نتفق مع القائل أنه لا يمكن فهم الاتصال حين ينظر إليه في مجموعه، بدون الرجوع إلى بعده السّياسي، ومشكلاته التي لا يمكن حلها بدون أن نضع في اعتبارنا العلاقات السياسية. وتزيد تكنولوجيا الاتصال المتطورة الوضع سوءً فبها أصبح كل بث للمعلومة إعلاما دوليا يُتداول عبر الحدود، بحيث يتعدى استهدافه نطاق الدولة الواحدة، أو الشعب الواحد، حيث تتحرك الرسائل الإعلامية من خلاله بين اثنين أو أكثر من الأنظمة الثقافية المختلفة. ويعتبر الاستلاب الثقافي الذي نعاني منه أحد أهم سلبيات الإعلام الدولي وهو محصلة العلاقات الدولية القائمة على الهيمنة والتبعية بين الدول الأقوى والدول الأضعف، ويبدأ الاستلاب بهيمنة ثقافية بدعوى إشاعة الديمقراطية والقيم "الحضارية". ولهذا فإن الإعلام الدولي اليوم يستخدم معولا في إطار الصراع السياسي والأيدلوجي المحتدم.
وقد تحوّلت قضية دارفور إلى قضية دولية بفضل الآلة الإعلامية الأميركية المهيمنة والمدفوعة بأجندة سياسية شريرة معروفة ولم نأتي في ذلك بشيء من الخيال أو الافتراء فها هو بول ستار أستاذ العلوم الإجتماعية في جامعة برنستون الأميركية يرى في كتابه "نشأة الإعلام: الجذور السياسية للاتصالات الحديثة" أن المؤسسات الإعلامية الأميركية، تحولت إلى معاقل للقوة والسيطرة بحد ذاتها. ويؤكد أيضا المحلل السياسي الأميركي روبرت دبليو. ماكينـزي في كتابه "مشكلة الإعلام: سياسات الاتصال الأميركي في القرن الحادي والعشرين" أن مظاهر أزمة وأعراض الإعلام الأميركي تتجلى في تراجع وانحسار المهنية الصحفية، القائمة على موضوعية وحيّدة التغطية الإخبارية للأحداث. يقابل ذلك نمو ملحوظ في تلوين الأخبار وزخرفتها وتكييفها وفقا للمتطلبات. وحسب عالم النفس الهولندي ميرلو، أن وسائل الإعلام تحيل الإنسان إلى كائن لا حول له ولا قوة، وتخضعه إخضاعا ربما لرؤى سياسية معينة، إذ تتضافر فنون الضغط الثقافي والعاطفي مرتبطة بالضغط البدني للسيطرة على الإنسان الضحية وتحويله إلى فرد له معتقدات جديدة عن طريق حمله على الشعور بالذنب والاعتراف بأخطاء لم يرتكبها.
ورغم أن بعض المتفائلين يرون أن المشكلة في قضية دارفور وفي سائر قضايا العالم الثالث أنها تتعلق بنقص المعلومة الصحيحة والدقيقة إلا أن المسألة أكبر من ذلك بكثير إذ يتعلق الأمر بالنوايا السيئة المبيتة والمرتبطة بالأغراض السياسية. ومما لا شك فيه أن الإعلام الأميركي يستهدف جميع البلاد العربية والإسلامية ولكن بدرجات مختلفة وبجرعات تتباين كميا ونوعيا.
هذه قرية سعودية تسمى "تلعة نزا" نشرت عنها صحيفة الحياة تقريرا مطولا جاء فيه أنها تقع
على مسافة لا تزيد على 40 كيلو متراً عن مدينة ينبع الصناعية، إحدى أهم مدينتين صناعيتين في السعودية حالياً، حيث تعيش في هذه القرية 170 أسرة حياة بعيدة عن تطورات ومجريات القرن الحادي والعشرين. ويمضي التقرير الصحفي يقول:خدمات البنى التحتية الرئيسة تسير ببطء نحوهم، ولم يعد كبار السن فقط في حاجة إلى الضمان الاجتماعي. فشبان، في العقدين الثاني والثالث، يرزحون في غياهب الجهل بحاجة أيضاً إلى مثل هذا الضمان. خصوصاً، وأن بعضهم يعيش على الاحتطاب، وآخرين على ما تبقى لهم من مواشٍ لا يتجاوز عددها أصابع اليدين.ومعظم السكان، الذين بدأ يتقلص عددهم، يعيشون تحت خط الفقر، ويرزحون في ظلمات الجهل، ويعيشون على جمع الحطب، وتربية الأغنام والإبل، والتي بدأت في الهلاك بعد انتشار مرض غير معروف مصدره أو سببه. بيوتهم المصنوعة من الحجارة. بدت كالهياكل ويمكن وصفها بكل شيء إلا بالبيوت. وكذلك الخيام.
ولا شك أن نمط الحياة والثقافة المتوارثة سبب رئيسي في هذه الحالة التي جعلت هذه القرية تبعد مئات السنين عن المدنية المعاصرة. لكن ماذا لو كان للإعلام الأميركي الموتور أجندة سياسية معينة في هذه المنطقة؟ يقيني أنه لجلب عليها بخيله ورجله، وأنتج مئات الصور والأفلام والتقارير التي تستجدي عاطفة الضمير الإنساني ولخرجت هذه الواقعة من سياقها الطبيعي وأصبحت قضية دولية يوعز فيها لمجلس الأمن لإصدار القرار تلو القرار ولقامت قائمة منظمات حقوق الإنسان ولم تقعد.
ولأن الأجندة السياسية حاضرة بقوة في قضية دارفور فقد خرجت هذه القضية من سياقها الطبيعي المتمثل في الصراع المتوارث بين القبائل الرعوية وتلك التي تعتمد الزراعة مكونا رئيسيا لإقتصادها، وأضحى نمط الحياة والثقافة المتوارثة مكوّن أساسي لتقارير ذلك الإعلام الظالم المأزوم بالنوايا السيئة مسببة للشعوب المغلوبة ضيقة في صدرها مستسنة.
إن هذا الإعلام ومن خلفه اليمن الأميركي المتطرف لن يرضى عن هذه الشعوب حتى ولو حققت مدينة مثالية وخيالية في نفس الوقت، مثل مدينة إفلاطون مع علم الجميع أن نظام إفلاطون لا يقوم إلا على جزيرة محمية ومنعزلة في الوقت نفسه. وحتى هذه اليوتوبيا التي تناولها توماس مور (في كتابه يوتوبيا: أو حول الدستور الأمثل للجمهورية 1516م) نقضها الغرب في زمننا الحاضر وأصبح يتحدث عن ما يسميه فلسفة ما بعد الحداثة التي لم تعد تؤمن بوجود العقل المطلق، أو الحقيقة المطلقة وإنما العقل في نظرها نسبي، وكذلك الحقيقة. وتدعو هذه الفلسفة إلى حل الخلافات عن طريق النقاش والتفاوض. إنها تدعو إلى بلورة إجماع معين أو تضامن كاف من اجل تحاشي انفجار العنف والصدام. لكن الأجندة السياسية الأميركية المتطرفة تأبى غير تأجيج الخلافات العرقية والطائفية والمذهبية.
أما إعلامنا الإقليمي والمحلي قد ارتضى في غالبه طوعا أو كرها أن يكون صدى للآلة الإعلامية الأميركية. هذه الآلة التي تمارس تحيزا ضد القضايا العربية لصالح الكيان الإسرائيلي في خرق واضح لقيم الموضوعية والمصداقية الإعلامية؛ وبنظرة عامة فاحصة لخريطة التدفق الإعلامي بين الوطن العربي والعالم الخارجي سوف نلحظ النفوذ الهائل الذي تمارسه وكالات الأنباء العالمية والغربية على وجه الخصوص في تشكيل صورة الحياة السياسية والاقتصادية في عالمنا وفي تشويه الواقع العربي وخصوصا القضايا القومية. ولا تدخر وسائل إعلامنا وسعا في تسويق الإحباط بالتركيز على السلبيات بحيث تصبح أدوات في إطار الصراعات السياسية الداخلية وتستقوي بالعدو مماحكة وكيدا للأطراف الأخرى وتترك بعيدا مسؤولياتها الوطنية وقضايا أمتها الإستراتيجية.
قال الله تعالى: "ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين"
صحيفة الوطن القطرية 26 يونيو 2007
تعليقات