سوار الذهب.. دروس ذهبية في السياسة والعسكرية
ظل يقينا ناهضا فوق منصة الأستاذية تصاحبه قريحة ثاقبة وكياسة نادرة
سوار الذهب.. دروس ذهبية في السياسة والعسكرية
ياسر محجوب
صحفي سوداني
سوار الذهب.. دروس ذهبية في السياسة والعسكرية
ياسر محجوب
صحفي سوداني
لأن الرجل لا يحب الخوض في السياسة ولأن ورعه يسلبه الجسارة على اجترار مرحلة تاريخية مهمة من التطور السياسي في السودان فمن باب أولى أن نتجاوز الحديث عن المواقف السياسية إلى مواقفه الإنسانية ولو قلنا أنه معجز عصره في التجرد والنزاهة لما قلنا شططا فهو صاحب طبع نافذ وخاطر عامر وقريحة ثاقبة وكياسة نادرة. والمناسبة التي دعتنا إلى أن نومئ على استحياء إلى بعض سمات تفوقه وعظمته، مناسبة عظيمة تأتي في سياق مخاض عسير تجتازه أمتنا العربية والإسلامية. وهي مشاركته الحالية في "الملتقى الثاني للديمقراطية والإصلاح السياسي في الوطن العربي" بالدوحة.
المشير عبد الرحمن محمد حسن سوار الذهب الرئيس السوداني الأسبق، ورئيس مجلس أمناء منظمة الدعوة الإسلامية في الوقت الحالي، تحمل بكل مسؤولية وجسارة مهمة أعباء السلطة إبان انتفاضة ابريل 1985 بصفته أعلى قادة الجيش وبتنسيق مع القيادات السياسية حينذاك وفي بادرة لم يعهدها التاريخ العربي المعاصر - وكررها قبل عدة أسابيع شقيقه الموريتاني العقيد علي ولد محمد فال - قام بتسليم السلطة لحكومة المنتخبة في العام التالي. ثم اعتزل العمل السياسي وعكف على عمل الدعوة الإسلامية. معيدا سيرة التابعي الجليل معاوية بن يزيد الذي ترك الحكم ولم يقبل توليه.
كان المشير سوار الذهب يقينا ناهضا فوق منصة الأستاذية قدم أبلغ الدروس السياسية والعسكرية واليوم دروسه الاجتماعية والدعوية تقرع الأسماع ولم يزده انطفاء أضواء والسلطة وزخارفها من حوله إلا ألقا وعظمة فلم نره بعدها إلا محفودا محشودا مخدوما يجتمع الناس حوله، ولعل اختياره لرئاسة أكبر منظمة دعوية في إفريقيا والتي ويعود الفضل إليها في تشييد المساجد، والمستشفيات، وملاجئ الأيتام ومراكز رعاية الطفولة، اختيار صادف أهله. بل أن المنظمة ارتفعت قامتها بوجوده بين ظهرانيها، وقبل سوار الذهب هذا التكليف بقناعة تامة تنطلق من إيمانه العميق بأن ميدان الدعوة والعمل الاجتماعي من أشرف الأعمال وربما أقربها إلى فطرته السليمة. وتقول الإحصاءات التي ربما كانت قديمة بعض الشيء أن المنظمة شيّدت أكثر من 55 مدرسة ثانوية، و150 مدرسة ابتدائية ومتوسطة وأكثر من 2000 مسجد في أفريقيا وشرق أوروبا و14 مستشفى عاما ومتخصصا، وحوالي 800 مستوصف، و120 مركزا للطفولة والتغذية ورعاية الأمومة والتحصين. 6 ملاجئ للأيتام والإشراف عليها في أفريقيا. كما تم حفر أكثر من 1000 بئر للمياه، وأكثر من 10 محطات للمياه في إفريقيا.
ويتولى سوار الذهب مناصب أخرى في ذات المجال، حيث يشغل منصب نائب الرئيس للمجلس الإسلامي للدعوة الإغاثة وتضم نحو 70 منظمة، ونائب الرئيس للهيئة الإسلامية العالمية في الكويت، ونائب "رئيس ائتلاف الخير" في لبنان وتعنى بدعم القضية الفلسطينية، وهو كذلك نائب رئيس أمناء مؤسسة القدس الدولية. ولم يكن مصادفة حينما فاز بجائزة الملك فيصل العالمية في مجال خدمة الإسلام في العام 2004 بجانب الذين سبقوه مثل العلامة أبو الأعلى المودودي والملك خالد بن عبد العزيز آل سعود والشيخ عبد العزيز بن باز والمفكر أحمد حسين ديدات، والدكتور رجاء جارودي والشيخ محمد الغزالي وغيرهم من عظماء هذه الأمة. ومن شروط هذه الجائزة، العمل على خدمة الإسلام والمسلمين في المجالات الفكرية والعلمية والعملية. وتحقيق النفع العام للمسلمين في حاضرهم ومستقبلهم، والتقدم بهم نحو ميادين الحضارة للمشاركة فيها. فضلا عن تأصيل المُثُل والقيم الإسلامية في الحياة الاجتماعية وإبرازها للعالم.
كثيرة هي القضايا التي تشغل بال الرجل وهي قضايا تتسامى فوق الجهوية والإقليمية والقُطرية لتظلل بشموليتها الأمة العربية والإسلامية بل كل الأمم المستضعفة التي يسميها العالم الغربي بأمم العالم الثالث. فقد قدم بحوثا في مؤتمرات كثيرة عن الإسلام والدعوة إليه، والتحديات التي تواجهه، وذلك على المستوى الإسلامي والعالمي. ويرى أن الغرب أو العالم "الأول" يحاول باستمرار إتلاف عقول الشباب المسلم باستهداف هويته وعقيدته، وقال أمام الدورة العاشرة للندوة العالمية لشباب العالم الإسلامي بالقاهرة: "علينا أن ننتبه لأسلحة الدمار الشامل الغربية التي تحاول أن تنقل إلى المجتمعات العربية الإسلامية ما يتسم به شباب الغرب من انفلات". داعيا إلى كشف الخطط والمؤامرات الغربية التي تهدف هدم وتمييع القيم والأخلاق التي بناها الإسلام. هذه المواقف بالطبع لا تؤهله ليكون أمينا عاما للأمم المتحدة وهو جدير بالمنصب ولا حتى لنيل إحدى جوائز نوبل. ذلك ليس لشيء إلا لأن نصيبه من كمال الأخلاق الذي يُعشق عادة لم يرزق بمثله رجل معاصر.
لقد حاولت قبل أكثر من 7 سنوات إجراء حوار صحفي معه في إحدى زيارته للدوحة وما أن أبُلغت بموافقته حتى ذهبت راكضاً بمعية المصور فقد بهرني تواضع الرجل وايجابيته وصدق توجهه لخدمة الإسلام والمسلمين.. لكنني كنت أنظر للحوار من زاوية غير التي توقعها المشير فما أن استشرف زاويتي السياسية لهذا الحوار بعد الاستقبال والترحاب حتى رأيت ثغره يفتر عن ابتسامة كضوء الفجر طالبا أن يكون الحوار بعيدا عن السياسة ومرتكزا على العمل الاجتماعي والدعوي وفي محاولة يائسة مني لإقناعه أوعزت للمصور بالانصراف اعتقادا مني أن ذلك سوف يساعد في إزالة بعض التوتر الذي شاب الموقف نتيجة للفهم المتباين لاتجاه الحوار، لكن الرجل ظل مصرا على موقفه من عدم تعاطي السياسية حتى ولو من زاوية اجترار الماضي. ولا شك أن الرجل لا يخاف السياسة أو يهابها فقد كان سياسيا محنكا تسلم السلطة عندما رأي أن المصلحة الوطنية تتطلب ذلك وسلمها بعد أن أشرف على انتخابات نزيهة وشفافة. فالسياسة عنده ليست غاية في حد ذاتها فهي وسيلة لخدمة الوطن والمجتمع وطالما توفر له أن يخدم أمته وهذا مجال أوسع من وطنه السودان عبر وسيلة أخرى وهي الدعوة والعمل الإنساني فبها ونعمت.
وهذا دليل على أن الرجل لم يكن ليسعى للسلطة من أجل السلطة، ولم يكن خائنا للأمانة عندما تسلم السلطة وهو وزير دفاع الرئيس الأسبق جعفر نميري، لأن ساعتها كانت مصلحة الوطن فوق أي اعتبار، وتحلل سوار الذهب من يمين الولاء لنميري بالصوم ثلاثة أيام، وألقى بيانه الأول وهو صائم. وسبق لسوار الذهب أن رفض تسليم حاميه مدينه الأبيض العسكرية عندما كان قائدا للحامية عند الانقلاب الدموي للرائد هاشم العطا عام 1971، حتى استعاد النميري مقاليد الحكم بعد ثلاثة أيام عاصفة. والمشير اليوم على علاقة وصداقة وثيقة مع نميري وهو من الزوار القلائل الذين يزورونه في منزله بالخرطوم.
وروي عن تواضع الرجل أنه شوهد ذات يوم في مطار الملك خالد الدولي بالرياض وهو مغادر للسودان يزحف في طابور المغادرين مع المواطنين فسأل ضابط سعودي من الجوازات أحد المسافرين هل هذا الرئيس سوار الذهب؟ فكانت الإجابة بنعم، فذهب وأخذ حقيبته بعد إلحاح ورفض من سوار الذهب ليواصل وقوفه في الطابور مع المواطنين وبعد جهد جهيد أقنعه الضابط السعودي لكن بعد أن استأذن سوار الذهب من الذين أمامه ومن خلفه في الطابور.
لعل هذه المشاهد القليلة التي حظيت بالتسجيل تعطي طرفا بسيطا عن سيرة الرجل التي تحتاج لمجلدات كثيرة. ويقال أن المخرج المصري حامد حسن طلب من الممثل الأسمر أحمد زكي بعد أن يتعافى من المرض الذي لم يمهله أن يقوم بتمثيل فيلم عن المشير سوار الذهب. لأن أحمد زكي قد نجح نجاحا كبيرا في فيلمين عن شخصية كل من الرئيس أنور السادات والرئيس جمال عبد الناصر.
أليس هذا الرجل مثالا يُحْتذي به؟ ألا يستحق أن تُدَرَّس سيرته؟ بكل تأكيد لا أدعي أنِّى قد وفَّيْته حقه ولكن عزائي أنه نذر نفسه لعمل عظيم يبتغي به وجه لله ولرفعة دينه وليس لشهرة أو جاه أطال الله بقاء الرجل ومتعه بالصحة والعافية وأكثر من أمثاله فنحن في أمسِّ الحاجة إلي الاقتداء بمن يشغل نفسه بالحقيقة ويبتعد عن التوافه ويعمل مخلصاً أميناً لرفعة شأن الإنسان والإنسانية
.
صحيفة الوطن القطرية 28 مايو 2007
صحيفة الوطن القطرية 28 مايو 2007
تعليقات