المعارضة السياسية في إطار الدولة.. فن وفلسفة
لا وزن للرأي الآخر الذي لا يقوم على علم ومعرفة
المعارضة السياسية في إطار الدولة.. فن وفلسفة
المعارضة السياسية في إطار الدولة.. فن وفلسفة
ياسر محجوب
كاتب وصحفي سوداني
يرى الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز 1588 – 1679، الذي يُعتبر من أهم واضعي النظريات السياسية الحديثة، أن الدولة في حالة الطبيعة أي في حالة فوضوية دون حكومة، ستكون "حمقاء، بهيمية" وعليه وجب على الناس الإدراك بأن وجود الحكم ضروري وأن الدولة حالة حتمية لحمايتهم من توجهاتهم الموروثة نحو التدمير الذاتي. لكن ضرورة وجود الدولة لا تعني نفي واضطهاد الرأي العام بما في ذلك الرأي المعارض، فالرأي العام شرط ضروري في عملية الالتزام بالعقد الاجتماعي.
وينظر للمعارضة السياسية باعتبارها فن، بيد أن هذا الفن فلسفة قائمة على مرتكز أساسي وهو الإيمان الراسخ بوحدة وقدسية الإطار الجيوسياسي للدولة. فالكثير ممن تصدى للعمل السياسي لا يكاد ينفك من داء المراهقة السياسية فيقع الخلط بين الدولة والحكومة وتستحيل الفواصل بين الاثنين إلى سراب يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئا.
وهؤلاء المراهقون مفعمون بالإغواء حتى الثمالة يخرون صما وعميانا على مفردات على شاكلة التجديد والإبداع والحداثة فتظل أعناقهم لها خاضعة وما هي إلا جزء لا يتجزأ من مصطلحات التخدير الفكري التغريبي. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فقد تحولت كثير من الكيانات السياسية والحزبية في فعلها السياسي إلى قبائل جاهلية وبنظرة إلى النموذج الجاهلي وهو نموذج ثقافي وأخلاقي لوجدناه غارقاً في السلوكيات الهمجية، وحتى في مراحل تاريخية معروفة من مسيرة الدولة الإسلامية دخلت بعض العادات الجاهلية إلى الدين وتلبست بلباسه وهي نقيضة له، والسياسة كذلك بمفهومها الحديث تلبّست بهذا النموذج. ولم تستطع النخب السياسية المعارضة أن تحترف فن المعارضة لكنها احتكرت لنفسها حق امتلاك الحقيقة، بينما الحقيقة نسبية ومتداولة بين الناس.
إن كثيرا من سلوكيات المعارضين ينطبق عليها قول الجاحظ: أن لا شيء أصعب من مكابدة الطبائع، ومغالبة الأهواء؛ فإن الدولة لم تزل للهوى على الرأي طول الدهر. وليس هناك مشكلة إذا ما اعتمد المعارضون في مدافعتهم للسلطة لعبة الشطرنج ومنهج "الحرب" الباردة بدلا من لعبة الملاكمة ولغة السلاح في إطار الدولة. فقد غضّ الرسول صلى الله عليه وسلم الطرف عن المنافقين وهم أضداد في الدين، وأجرى عليهم حكم الظاهر حتى قويت بهم الشوكة وكثر بهم العدد وتكاملت بهم القوة، ووكلهم فيما أضمرته قلوبهم من النفاق إلى علام الغيوب المؤاخذ بضمائر القلوب. قال الله تعالى: "ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم". ومن ضمن تأويلات الريح في هذه الآية الكريمة أنها الدولة.
وليس مطلوبا أن يكون هناك إجماع في أمور السياسة، فهذا أمر لا يقره المنطق الرشيد ولا العقل السديد. وإذا كانت آراء شخصين متفقة دائما فليست هناك حاجة لوجودهما فأحدهما يكفي. يقول الإمام أحمد بن حنبل: الإجماع من الأمور العسيرة الحدوث في شؤون الفروع الدينية فضلا عن شؤون السياسة والمتغيرات الدنيوية. بيد أن شرعية أي نظام سياسي أوسع من التأييد أو المعارضة فقد يكون هناك من يعارض السلطة أو يتذمر من بعض مواقفها وسياساتها ولكن هذه أمور طبيعية بل حتمية لكن ذلك لا ينفي الشرعية طالما شعر المواطنون أن السلطة في توجهها العام سلطة وطنية ومخلصة لخيارات التنمية والرفاه الاجتماعي والقيم التي تربط أبناء الوطن بعضهم ببعض.
لقد كان لمفهوم الرأي العام في الإسلام حضور كبير متمثل في قيمة الشورى من خلال قوله تعالى: "فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ" آل عمران: 159. وقوله جلّ جلاله كذلك: "وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُون" الشورى: الآية 38. والشورى نظام للحكم يستهدف استطلاع رأي الأمة، أو من ينوب عنها في الأمور القائمة المتعلقة بها. وهي تختلف عن الشورى في الأمور الفنية. وترتبط الشورى في الفكر الإسلامي ارتباطاً وثيقاً بالمؤسسة السياسية. وهي عند بعض المفكرين فريضة في سياسة الدولة والأمة، بل وشرط في طاعة الرعية للراعي. والبيعة علاقة من الأفراد بالسلطة السياسية في التأييد والمآزرة، وأن الشورى تنازل السلطان لأخذ رأي الفرد أو الجماعة وهو أمر واجب على الحكام في الإسلام.
والشورى قيمة حضارية، وعليه، فقد استوجب ربط هذه القيمة بمن هو في مستواها من جهة، قال تعالى: "وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ" النحل 43. ويستطيع بالتالي الاستجابة عن علم ودراسة. من جهة أخرى، قال تعالى: "ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ" الجاثية 18. فالرأي الآخر الذي لا يقوم على علم ومعرفة لا وزن له. وقيمة أي رأي تتوقف على مقدار المعرفة التي يمتلكها هذا الرأي عن الموضوع المطروح للاستشارة. وقد زكّى الإسلام قيمة الشورى وبين رجحان كفتها حتى في قصص التاريخ. فقد استشارت ملكة سبأ قومها قائلة: "قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ" النمل 32.
وروح الجماعة تُسيّطر على الأمة الُمسلمة ولا فردية في الإسلام، فالإسلام دين الاتصال، فالمسجد ربما تزيد فائدته في الدنيا على فائدته في الآخرة. فهو وسيلة اتصال كبرى تؤثر في الشعور الجمعي عند المسلم، وعاملٌ مهمٌ من عوامل تكوين الرأي العام، ولا نستغرب حين يصف الغربيون الحراك الثوري في بعض الدول الإسلامية بأنه "ثورة المساجد".
وما من شك في أن الرأي العام مظهراً مباشراً لوجود المجتمع السّياسي، ويرتبط بالوعي السّياسي لدى شعب من الشعوب. فينشأ الرأي العام نتيجة لنشأة الوعي السّياسي لدى الجماهير، ويساعدها الرأي العام في إعمال الفكر وإبداء وجهات النظر تجاه ما يُثار من جدل ونقاش حول القضايا العامة التي تمس المصالح الجوهريّة للشعب. فنهضة بلد ما ترتكز على القوة النفسية للشعب، تلك القوة التي تتمثل في شعوره الحقيقي بأنه سيّد، وأنه يصنع مستقبله ولا يفاجأ به. وإذا فقد الناس شجاعتهم في إبداء الرأي، فقدوا بالتالي ما يؤهلهم للاستقامة، والتقدم، والتطور.
صحيفة الوطن القطرية 16 مايو 2007
تعليقات