عروبة السودان.. الأدعياء يحاولون الضرب فوق الحزام

اللغة العربية أحد أهم مكونات الأمة الإستراتيجية
عروبة السودان.. الأدعياء يحاولون الضرب فوق الحزام

ياسر محجوب
كاتب وصحفي سوداني

محاولات قهر اللغات الوطنية هي إحدى ممارسات القوى الاستعمارية في مختلف أنحاء العالم لأجل الوصول إلى محو هوية الشعوب وفصلها عن حضارتها وثقافتها التي تعمق من انتمائهم وتربط بين أفراد الجماعة. وذلك من خلال فرض استخدام لغة المستعمر أو لغة هجينة لتعميق الفصل بين أبناء الأمة الواحدة وخلق ثقافات جديدة متصارعة. وكانت اللغة العربية هدفا استراتيجيا للأعداء، فالقضاء عليها يعني القضاء على أداة الاتصال الرئيسية في العالم العربي والإسلامي.
واليوم تواصل هذه القوى الاستعمارية في ثوبها الجديد محاولاتها عبر الأدعياء، أدعياء الوطنية وأدعياء الانتماء، لضرب أحد أهم مكونات أمتنا الإستراتيجية. وعندما تتم هذه المحاولات عبر وسائل الإعلام العربية تكون من الوضوح والسفور بحيث تصبح محاولات ضرب فوق الحزام وليس من تحته. فعروبة السودان عند صاحب العيون الزائغة التي انطفأ فيها كل ومض وبريق هي "عروبة لسان"!! مصطلحات وتسميات ما أنزل الله بها من سلطان. إن صاحبنا الموتور لا يعلم أن سعيه سعي يائس وخطرفاته ليست إلا رماد اشتدت به الريح في يوم عاصف. فهو ممن اتبعوا هواهم فكان أمرهم فرطا. لقد كان يومها أضحوكة "الاتجاه المعاكس" وكان غريمه كالطود شامخا ثابتا هادئ الفورة.. ثابت الوطأة. ألا ليت شعري والخطوب كثيرة ليقيّض الله من عباده في كل معترك من تندفع بهم غوائل الفتنة ونذر الشّر.
ولغة الضاد كانت ولا تزال من أهم عناصر القومية، وأبرز أركانها ومقوماتها، تاريخا وحاضرا. وبوصفها الوعاء الفكري والمستودع الحضاري للأمة العربية تعتبر من العناصر المهمة في تقوية الروابط القومية بين البلاد العربية حاضرا وتاريخا.
محمود عباس العقاد يقول في كتابه "أشتات مجتمعات اللغة والأدب": "إن الحملة على اللغة في الأقطار الأخرى إنما هي حملة على لسانها أو على أدبها وثمرات تفكيرها على أبعد الاحتمال، ولكن الحملة على لغتنا نحن حملة على كل شيء يعنينا، وعلى كل تقليد من تقاليدنا الإجتماعية والدينية، وعلى اللسان والفكر والضمير في ضربة واحدة. وزوال اللغة العربية – لا سمح الله – لا يبقي للعربي أو المسلم قواما يميزه على سائر الأقوام ولا يعصمه أن يذوب في غِمار الأمم فلا تبقى له باقية من بيان ولا عرف ولا معرفة ولا إيمان".
إن دعوات تحديث اللغة العربية ظلت متواترة تُشكك في قدرة اللغة العربية على الاستيعاب وتوحي بعجزها عن التعبير والأداء، لتتوصل إلى أنه ينبغي أن يتعلم أبناء العرب في مؤسساتهم التعليمية بغير لغتهم. في سنة 1902م ألف قاضي محكمة الاستئناف الانجليزي (ولمور) في مصر كتابا أسماه "لغة القاهرة" ووضع فيه قواعد لتلك اللغة التي اقترحها لغة للعلم والأدب، واقترح كتابتها بالأحرف اللاتينية. فأنشد شاعر النيل حافظ إبراهيم غاضبا يقول:
وسـعـت كتاب الله لفظا وغاية ** وما ضقت عن آي به وعـظات
فكيف أضيق اليوم وصف آلة ** وتنسـيق أسمـاء المخـترعـات
أنا البحر في أحشائه الدُّر كامنٌ ** فهل سألوا الغواص عن صـدفاتي
وليس طه حسين وقاسم أمين كالعقاد وشوقي فقد أصابتهما لوثة كبار الأدباء آنذاك من الذين أخذهم التيار التغريبي، فها هو طه حسين أعتبر قضية التمسّك باللغة أمراً تافهاً، بل أن مجرد الحديث عنها لا يفيد شيئاً ليصل من ذلك إلى إمكانية تعويض العربية في مصر بغيرها من اللغات "الراقية" .أما قاسم أمين فقد دعا إلى التخلص من الإعراب بتسكين أواخر الكلمات باعتبارها طريقة جميع اللغات الإفرنجية.
واللغة عند العلماء تنظيم معين من الإشارات، ومن أحد أهدافه هذا التنظيم الأساسية تأمين الاتصال. وهي نظام من العلامات الصوتية؛ ينشأ ويتطور مرتبطا بتاريخ الناطقين بها ويستخدم وسيلة للتواصل، ووسطا للتفكير ومجالا للتعبير عن الأفكار والعواطف والمشاعر. ولم تكن اللغة مجرد ألفاظ صوتية، فالببغاء يطلق ألفاظا في محاكاته للإنسان، لكن الله سبحانه وتعالى، إلى جانب هذه الألفاظ الصوتية، زوّد الإنسان بالقدرة على استخدام هذه الأصوات باعتبارها إشارات تمثل المفاهيم الداخلية، وجعلها تمثل الأفكار للآخرين، وقادرة على نقل الأفكار من شخص إلى آخر. ويعتبرها البعض الجسر الواصل بين خصوصية الذات وعمومية الموضوع؛ فهي التي تُترجم ما في ضمائرنا من معان، كما يقول ابن خلدون في مقدمته لتستحيل إلى أدوات تشكّل الحياة وتـوجّـه أداء المجتمع وسلوك أفراده وجماعاته ومؤسـساته.
لأجل ذلك من الأهمية بمكان أن ترتبط السياسات اللغوية لوسائل الإعلام الوطنية بخدمة قضايا الهوية، وتأكيد الذات اللغوية، ومن هنا يمكن توسيع نطاق استخدام الّلغة وفق الرؤية التي مفادها أن اللغة هي مطية الأفكار، وأسلوب هام في التفكير والتصور.
وللغة العربية أفضلية على سائر اللغات، لأنها لغة الوحي الكريم، يقول الله تعالى في سورة الشعراء: "وَإِنَّهُ لَتَنـزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ* نَـزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ* عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ* بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ" فوصفه الله عزّ وجل بابلغ ما يوصف به الكلام وهو البيان. فلما خص جلَّ ثناؤه اللسان العربي بالبيان عُلم أن سائر اللغات قاصرة عنه وواقعه دونه والذي كانت العربية، وعاءه الخالد، هو الذي يجعلنا ندرك الطاقة التي تمتلكها العربية، والشرف الكبير، الذي جعل منها لغة التنـزيل.
ويعلم أعداء اللغة العربية أن حافظ القرآن يحمل مخزونا وافرا من الألفاظ ذات المعاني المغذية لأفكاره والمشبعة للغته العربية والتي تجعله يعبر عنها في طلاقة كما يؤكد علماء النفس أن الحفظ تدريب للذاكرة بما يستظهره فيها وتستوعبه، كما أن أثر الحفظ ينتقل إلى غيره من المواد الدراسية. والأسلوب القرآني هو جوهر التحدي الّلغوي وذو خصوصية متفردة وهو نمط في الأسلوب الأدبي بلغ حد الإعجاز. ومن ثمّ كان له التأثير النافذ والمتغلغل في أعماق النفس.
وتؤكد إحدى الباحثات في دراسة لها تستكشف فيها المتضمنات الثقافية والسياسية لقضية اللغة في العالم العربي، أن حيّز الدين وليس الحيز البيروقراطي أو التعليمي أو الإعلامي، هو في الدرجة الأولى ما حافظ على استمرار وجود الفصحى في حياة السكان. وتبين، من خلال وصف الروتين اليومي لأسرة مصرية لا تتعاطى كثيرا القراءة أو الكتابة ارتباط الفصحى بالمناسبات الدينية وكيف يؤدي ذلك تشكيل العلاقة العاطفية معها.
ولقد كانت اللغة العربية فيما يعرف بالعصور الوسطى قادرة على الأداء والعطاء، ووقفت الشعوب الأخرى منبهرة ومشدوهة أمام عظمتها وقدرتها على استيعاب العلوم التي كانت مزدهرة آنئذ. فاضطروا إلى استخدام كثير من الألفاظ "العلمية" العربية في شتى علومهم، ومازالت هي الأساس في معاجمهم العلمية.
إذن من لا يريد للسودان أن يكون وطنا عربيا مسلما فليذهب من حيث أتى وإلا فإنه وطن يتسع للكل بسماحة أهله وطيب معشرهم. أما الإستراتيجية الغربية الأميركية لتفتيت الوطن العربي والإسلامي فيما يعرف بـ"الشرق الأوسط" ستبقى هدفا عزيز المنال ما دامت هذه اللغة عروة وثقى لا انفصام لها. صدق الله العظيم حين قال: "هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ * وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ * إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ " الشعراء.

صحيفة الوطن القطرية 7 فبراير 2007

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة