فضائية الحرة وحركية العقل السياسي الأمريكي
سياسة خارجية عادلة ستوفر تكاليفها الباهظة على واشنطن
فضائية الحرة وحركية العقل السياسي الأمريكي
فضائية الحرة وحركية العقل السياسي الأمريكي
ياسر محجوب
كاتب وصحفي سوداني
أخذ المجهود الإعلامي الأميركي نحو الجماهير العربية بالتطور والتبلور بشكل لافت للانتباه وبصورة تتماشى مع تصاعد المجهود الحربي الأميركي في المنطقة وأصبح بالإمكان توفير مخصصات مالية سخية من الكونغرس لصالح برامج الإعلام الخارجي في وزارة الخارجية واختير اسم «الحرة» لقناة فضائية جديدة يبدو انه امتداد للإعلام الأميركي الموجه كإذاعة أوروبا الحرة وراديو الحرية وجهت إبان الحرب الباردة نحو الكتلة الاشتراكية. ومعلوم أن الإعلام الخارجي يوجه إلى الجمهور الخارجي خارج حدود الدولة وتتم العمليات الإعلامية الخارجية في نطاق التخطيط الحكومي وتحت رقابة أجهزة الدولة.
وذكرت التقارير الإعلامية أن الإدارة الأميركية قررت تحسين صورتها في 22 دولة في المنطقة العربية بهدف الحد من نفوذ قناتي الجزيرة والعربية الإخباريتين اللتين تتمتعان بشعبية كبيرة في المنطقة وحظيت القناة الأميركية الجديدة بميزانية قدرها 30 مليون دولار للعام 2004 ولكن ما هي علاقة السياسة الخارجية بالإعلام؟ وما الذي جعل الولايات المتحدة الأميركية تفكر في إنشاء قناة فضائية ناطقة بالعربية؟
ولابد لنا أن نقر في البداية انه من الصعوبة بمكان تصور أي عملية سياسية دون الإعلام. والاتصال أو تصور الإعلام والاتصال دون سياسة .فالعلاقة بين النظامين. الاتصال والسياسة. في أي مجتمع من المجتمعات المتقدمة أو النامية. علاقة جوهرية إلى الدرجة التي يصعب معها تصور احدهما دون الآخر وللسياسة إذا ما استخدمنا العبارة بمعناها الرفيع علاقة لا تنفصم عن الإعلام والاتصال كما يقول بذلك شون ماكبرايد في الكتاب الموسوعي «أصوات متعددة وعالم واحد» وربما كان استخدام الإعلام في السياسة أمرا ليس بالحديث فهذا ابن خلدون يقول «أعلم إن السيف والقلم كلاهما آلة لصاحب الدولة يستعين بها على أمره» وتقوم عمليات التحول السياسي والاستمالة وزرع المعتقدات الجديدة على استخدام أساليب قتل العقل Menticisol كما يقول عالم النفس الهولندي ميرلو لأنها تحيل الإنسان إلى كائن لا حول له ولا قوة وتخضعه إخضاعا للتعاليم الجديدة إذ تتضافر فنون الضغط الثقافي والعاطفي مرتبطة بالضغط البدني للسيطرة على الإنسان الضحية وتحويله إلى فرد له عقلية جديدة عن طريق حمله على الاعتراف بأخطائه وإزالة هذه الأخطاء توطئة لتثقيفه من جديد.
ما بين الحرية والسياسية
ويبدو إن قيما مثل الحرية والموضوعية في ظل ارتباط السياسة في الغرب بالإعلام على نحو خاص تكون اقرب إلى أنها مجرد اطر نظرية لا تطبيق فعلي. فعلى سبيل المثال تعمل هيئة الإذاعة البريطانية من الناحية النظرية مستقلة عن الحكومة والأحزاب السياسية والمصالح المختلفة. ولكنها تظل في النهاية خاضعة لإدارة البرلمان. وهي تعمل كشركة بتفويض من البرلمان. وذلك لعدد معين من السنوات. وتقدم وجهة النظر البريطانية الرسمية من خلال تصريحات المسؤولين وإجراء المقابلات معهم. وتتحقق وزارة الخارجية البريطانية من عدم تقديم الإذاعة باستمرار لمعلومات معارضة للحكومة. وتحاول وزارة الخارجية أحيانا أن تمارس سلطاتها بإرسال مسؤول صغير ليتحدث كضابط اتصال مع المسؤول المختص في هيئة الإذاعة البريطانية.
ويرى المحلل السياسي الأميركي روبرت دبليو. ماكينزي في كتابه «مشكلة الإعلام: سياسات الاتصال الأميركي في القرن الحادي والعشرين» إن مظاهر أزمة وأعراض الإعلام الأميركي تتجلى في تراجع وانحسار المهنية الصحفية. القائمة على موضوعية وحيدة التغطية الإخبارية للأحداث. يقابل ذلك نمو ملحوظ في تلوين الأخبار وزخرفتها وتكييفها وفقا للمتطلبات. ويضيف بول ستار أستاذ العلوم الاجتماعية في جامعة برنستون الأميركية في كتابه «نشأة الإعلام: الجذور السياسية للاتصالات الحديثة» إن المؤسسات الإعلامية الأميركية. تحولت إلى معاقل للقوة والسيطرة بحد ذاتها. ويرى أن النتيجة الطبيعية لهذا الاستقواء الإعلامي. هو تناقض صورة وناتج المؤسسة الإعلامية الحديثة. مع صورتها التقليدية الكلاسيكية. وتنافيها مع التصور الكلاسيكي لما يجب أن يكون عليه دور الصحافة والإعلام في ظل المجتمع الديمقراطي.
من جانب آخر يتساءل المحلل الأميركي جيمس زغبي حول حقيقة التأثير الفاعل للإعلام على الرأي العام الأميركي. فمن يؤثر على الآخر؟ صانع القرار الأميركي على وسائل الإعلام؟ آم صانع هذا القرار يتحسب للإعلام قبل إعلان قراره؟ قد يصح التفريق هنا بين الاثنين. إلا أن كليهما جزء من العقل الأميركي والفكر الغربي. يقول الدكتور جيمس زغبي ـ وهو عربي أميركي ورئيس المعهد العربي الأميركي ــ إن الرؤساء في الولايات المتحدة عادة ما يجري انتخابهم لأنهم يعرفون كيف يبعثون برسالتهم عبر أجهزة الإعلام. وكيف يتحايلون ويمارسون سيطرتهم من خلالها. ويؤكد أن أجهزة الإعلام هناك على الرغم من أنها ظلت من الناحية الفنية بمنأى عن النفوذ الحكومي. إلا أنها استمرت تتأثر بالعديد من العوامل السياسية والحكومية وظلت هذه الاعتبارات السياسية والثقافية المتداخلة تجعل الإعلام الأميركي أكثر استجابة لتلك الضغوط وبشكل يجعله اقل حرية وأقل بحثا عن الحقيقة.
يذكر هنا الدكتور فواز احمد طوقان أستاذ الإعلام بجامعة البحرين إن الإعلاميين في البيت الأبيض ابتدعوا مصطلح (كلمة اليوم Word of the Day) على نسق «الأمر اليومي في الجيش Order of the Day» وهي التعليمات التي لا يجب أن يغفل عنها في ذلك اليوم أي عسكري. والأمر اليومي الإعلامي يتطابق مع مفهوم الإغراق Flooding حيث يجب على الإعلاميين المأمورين بأمر البيت الأبيض وعلى المسؤولين كافة أن يضخموا من موجة الإغراق في الأجهزة الإعلامية. وخير مثال لذلك مصطلح محور الشر حيث تتجمع في ضحية واحدة كل الصفات التي تبرر لأميركا إخراج الضحية من الإنسية إلى الحيوانية.
والفكر السياسي الغربي يعمل عبر الإعلام على ترسيخ صورة نمطية تتأسس على قاعدة فلسفية تعتبر إن الإسلام عدوا استراتيجيا للحضارة الغربية عبر نظرية «صدام الحضارات» والصورة النمطية هي صورة سلبية تتشكل من خلال التعميمات وتقوم على مجموعة من السمات التي تثير مشاعر الخوف والكراهية والنفور والاشمئزاز والاحتقار. ومن أهم سماتها أن الأقوياء يقومون بتشكيل هذه الصورة للضعفاء وأنها تعبر عن الاستعلاء وتستند إلى الإحساس بالتفوق والهيمنة من جانب أولئك الذين يقومون بتشكيلها. وتقول دراسة علمية أعدها السويسري الدكتور رتو بيت عنوانها «صورة العرب في أميركا» إن هناك تغلغلا للصورة التقليدية المشوهة للعرب في جميع فروع الثقافة الشعبية الأميركية. ففي المؤلفات العلمية المشهورة كقاموس MERRIAM WEBSTER-THESAURRS على سبيل المثال نجد إن هناك صورة مشوهة للمعاني المترادفة للفظة (عربي) وهي (متشرد. صايع. عاطل. أناني بلا هدف. متسكع. مساوم. بائع متجول. غشاش. مفاصل. نصاب. قطاع رقاب...). ويقول رتوبيت: إذا بحثنا في الطبعات القديمة لنفس هذا القاموس عن معنى كلمة (يهودي) سنجد مترادفات سلبية متشابهة.. ولكن تم حذفها من الطبعات الأخيرة. وقد رفض ناشر هذا القاموس الأميركي أن يفعل الشيء نفسه مع كلمة (العرب) وحذف هذه الألفاظ التي وصم العرب بها.. على الرغم من مطالبة العرب إياه بذلك.
الحرة وحركية العقل السياسي الأميركي
هذه الخلفية التي تقوم عليها أضخم آلة إعلامية في العالم تفسر تعاطي السياسة الخارجية الأميركية مع قضايا المنطقة العربية. تقول كريستيان امانبور مراسلة الحرب الأكثر شهرة في قناة C.N.N الإخبارية الأميركية إن الإعلام الأميركي لم يوجه للإدارة الأميركية أسئلة أكثر جرأة وقوة خلال الفترة التي سبقت الحرب ضد العراق. واعترفت بأن الـ c.n.n تأثرت بمناخ الخوف ووقفت وراء إدارة جورج بوش الابن وقناة فوكس نيوز المعروفة بتوجهاتها اليمينية.
ولقناة الحرة فضيلة كبرى تجعل منها لسان حال متواصلا لحركية العقل السياسي الأميركي وما يفكر فيه أو يخطط له لحاضر المنطقة العربية ومستقبلها.وان أردت معرفة موقف واشنطن من إيران أو لبنان أو السودان فما عليك إلا مشاهدة ليوم واحد فقط برامج «الحرة» ونشراتها الإخبارية وتعليقات خبرائها الأميركيان ومن يلف لفهم من العرب. وينظر البعض إلى نهج الحرة باعتباره احتلالا باللغة العربية في عقر دار العرب وبأصوات ووجوه أميركية بالتجنس الفكري. وفي هذا الصدد قرر اتحاد الكتاب العرب منع أعضائه البالغ عددهم نحو 500 عضو من الظهور على شاشة قناة الحرة. وقال الدكتور علي عقلة عرسان رئيس الاتحاد إن أسباب القرار تتمثل في إن قناة الحرة تأسست بهدف تحسين صورة الولايات المتحدة كما أن نجاحها يعتمد على أهمية وثقل المشاركين فيها. بالإضافة إلى ذلك فإن القرار يأتي في إطار الرد على منع قناة المنار اللبنانية ووصفها من قبل الأميركيين بأنها إرهابية.
خلاصة
يبدو أن العيب ليس في الاستخدام السياسي لوسائل الإعلام ــ خاصة في مجال العلاقات الدولية ــ وإنما يكون العيب في خطأ السياسة نفسها وارتكازها إلى معايير ليس من بينها العدل والحق والإنصاف. فالسياسة الأميركية الخارجية ظلت على انحيازها الكامل للدولة العبرية الغاصبة للأراضي الفلسطينية والتي تضرب عرض الحائط بالقرارات الدولية.
وربما كانت الطريقة التي أعلن بها عن قيام قناة الحرة تنم إما عن سذاجة صناع السياسة الخارجية الأميركية أو أن مصادر القرار الأميركي تعتقد بسذاجة الآخرين. فالإعلان بأن القناة قامت بغرض تحسين صورة الولايات المتحدة على ذلك النحو كان في حد ذاته خطأ استراتيجيا جعل من المستهدفين خاصة الطبقات النخبوية إن تتعامل بريبة مع برامجها المختلفة علما بأن مشاهدي القنوات الإخبارية غالبا ما يكونون من النخبويين.
والسياسة الأميركية الراهنة تجاه العالم العربي بانحيازها المعلوم للدولة العبرية والقائمة على أهداف مثل ضرب مفاصل القوة العربية التي قد تستعيد الحق الذي سلبته إسرائيل. لا يمكن أن تكون أساسا لسياسة خارجية ناجحة. فضلا عن قيام إعلام ناجح للتبشير بتلك السياسة. واعتماد سياسة خارجية أميركية ناجحة أمر يتطلب الأخذ بمعايير العدل والكيل بمكيال واحد.وعندها ربما لن تكون هناك حاجة لتحسين صورة الدولة خارجيا وسيتم توفير ملايين الدولارات على دافع الضرائب الأميركية
صحيفة الوطن القطرية أول أكتوبر 2005
تعليقات