سلفاكير.. وقبعة أكبر من رأسه

اتهاماته لشريكه خروج عن النص وتعارض مع متطلبات رجل الدولة
سلفاكير.. وقبعة أكبر من رأسه

ياسر محجوب
كاتب وصحفي سوداني


يبدو أنه ليس من السهل على سلفاكير ميارديت النائب الأول للرئيس السوداني أن يتقمص صفة رجل الدولة بعد سنوات التمرد في الغابات الاستوائية جنوبي السودان فبقيت الشكوك والهواجس والخواطر في رأسه دوامات ورياحا ومطرا. فبصورة مفاجئة وعلى عجل وزّع دعوات لرؤساء تحرير الصحف لعقد مؤتمر صحفي بالقصر الجمهوري ووصلت الدعوات مع الساعات الأولى من صباح نفس يوم المؤتمر حسبما ذكر أحد رؤساء التحرير.. هذا الأسلوب لم يبعث برسالة مفاده بأن هناك أمر جلل كما أراد رجال سلفاكير، بقدر ما عكس مدى التوتر والارتباك وحداثة التجربة في أحسن الأحوال.
انطوائي يميل إلى العزلة
وسلفاكير رجل انطوائي يميل إلى العزلة والغموض، ولا يمكن لأي شخص مهما أوتي من فراسة أن يخرج بأي انطباع في حالة تعمّد قراءة تقاسيم وجهه الجامدة والصارمة فهو بخيل بإبداء أي مشاعر لمحدثه فلا يمكن أن تعرف ما إذا كان سعيدا أو غاضبا، يوافقك القول أو يعارضك. لقد بدا سلفاكير في ذلك المؤتمر كشيخ مسن يرى نذر الشّر تتطاير في الأفق وتتقدم باتجاه الزرع والضرع فتمحق البيادر والحقول، لم يدر سلفاكير وهو يكيل التهم لشريكه في الحكم "المؤتمر الوطني" بزعامة الرئيس البشير أنه يشّوه صورة حكومة هو شريك أصيل فيها فرجل الدولة المحنك لا يمكن أن يطرح مشاكله وخلافاته وهي أمر طبيعي في الحياة السياسية على هذا النحو غير الرشيد وكان يمكن أن تُطرح الأمور في صمت ودون تعكير للأجواء والأوضاع المتوترة أصلا داخليا وإقليميا، لا سيما وأن الخلافات لم تكن خلافات دستورية فضلا عن أن اتفاقية السلام تحسّبت لمثل هذه الأمور المتوقعة من خلال اللجوء إلى المفوضيات المعنية ولمنظمة "الايقاد" وللمجتمع الدولي الضامن لهذا الاتفاق بدون الحاجة للتشهير وتلغيم الأجواء.
البعض يعتقد أن دوافع سلفاكير ربما كانت غير الذي أعلن عنه فهناك معركة خلافات قد بدأت داخل الحركة الشعبية التي يرأسها ومن المعلوم أن هذه الحركة تسيطر عليها قبيلة الدينكا وتُمسك بكل خيوطها ومفاصلها لكن هذه القبيلة نفسها تتنازعها تيارات مختلفة. فقد ولد سلفاكير فى منطقة قوقريال، وهى أحد معاقل قبيلة الدينكا في منطقة بحر الغزال وهو الوحيد الباقي على قيد الحياة من مؤسسي الحركة التاريخيين حيث كان عضواً لهيئة القيادة التي تكونت من أربعة عشر شخصاً قتل معظم أفرادها في ظروف غامضة أوفى الاقتتال الداخلي بين أجنحة الحركة مثل وليم نون، وكاربينو كوانين بول.
معاناة سلفاكير من تهميش قرنق
وفرع الدينكا قوقريال أكبر فروع الدينكا، بخلاف فرع دينكا بور الذي ينتمي إليه جون قرنق، وانتماء سلفاكير لفرع قوفريال يمنحه تأييد واسع وبشكل تلقائي داخل الحركة. لكن هذه المقومات كانت تتضاءل أمام كاريزمية قرنق الذي لم يكن مؤسساً للحركة فقط، بل ساهم بالقسط الأكبر فى صياغة رؤاها ومواقفها السياسية وتوجهاتها طوال العشرين عاماً الماضية، وقد لعب فيها كل الأدوار تقريباً فقد كان القائد العسكري والمفكّر السياسي ورجل الدبلوماسية، ممسكا بكل الخيوط، ولا يتورع في استخدام القوة المفرطة ضد أى محاولة لمعارضته، ولو لم يقض نحبه في حادثة الطائرة المعروفة لما جاء سلفاكير ليتولى مقاليد أمور الحركة في ظروف غير عادية، وبهذا جاءت الفرصة السانحة لدينكا قوقريال ليتبوءوا مكانة افتقدوها أمام طغيان دينكا بور بسبب قرنق.
ولذلك يبدو أن جون قرنق تعمد تهميش دور سلفاكير داخل الحركة رغم أنه كان رئيساً لهيئة الأركان العسكرية ويعد الرجل الثاني على المستويين العسكري والسياسي ليبطل مفعول ميزة انتمائه إلى فرع قوقريال، وقد تصاعدت الخلافات بين الرجلين إلى أن وصلت إلى طريق مسدود، إلى الحد الذي أنذر بوقوع تمرد واسع النطاق في صفوف الحركة يتزعمه سلفاكير ويدعمه عدد كبير من القيادات العسكرية وأبناء قوقريال داخل الحركة، وبدأت بوادر الانشقاق تظهر إلى العلن حينما رفض سلفاكير تلبية أوامر قرنق بالحضور لمقابلته في نقطة تمركز قرنق في ياي بجنوب السودان، واعتصم سلفاكير حينها بأحد الأحراش خشية القبض عليه أو تصفيته جسدياً كما جرت العادة، خاصة أنه كان قد قضى في وقت سابق بضع سنوات في سجون الحركة بسبب اختلافه في الرأي مع جون قرنق.
وكان سلفاكير يتهم قرنق دائما بأنه يحمل الحركة معه في حقيبته حينما يسافر في محاولة منه لتوصيف مدى استئثاره بمقاليد الأمور. وقد استمرت الخلافات حتى بعد تولي قرنق منصب النائب الأول لرئيس الجمهورية ورئاسة حكومة الجنوب عقب اتفاقية السلام، فأصدر قراراته الأولى من القصر الجمهوري بإعفاء بعض القادة العسكريين ومن بينهم سلفاكير وإحالتهم إلى التقاعد، وتخفيفا لوقع ذلك على سلفاكير قام بتعيينه بتعيين نائباً له في حكومة الجنوب وترقيته إلى رتبة فريق.
هذه الخلفية ربما تعضّد فرضية أزمة الحركة الداخلية التي دفعت سلفاكير لكيل الاتهامات لشريكه "المؤتمر الوطني" إرضاء لبعض التيارات في حركته التي يخشى بأسها أو هروبا من هذه المشاكل وخلطا للأوراق وانسجاما مع الضغوط الدولية التي تستهدف حكومة الخرطوم بمناسبة وبغير مناسبة. فرغم انعقاد مؤتمر القمة الأفريقي في الخرطوم فضل سلفاكير الانغماس في قضايا الحركة الداخلية بدلا من أن يكون في استقبال زعماء إفريقيا حيث يقتضى البروتوكول بوصفه نائبا أول للرئيس أن يكون في استقبال عدد منهم فضلا عن أهمية الحدث بالنسبة له ولحركته التي ترفع شعار إفريقية السودان وسبق أن انتقدت بشدة احتفال البلاد بالخرطوم كعاصمة للثقافة العربية.
أين أنفقت الحركة دولارات البترول؟
لقد أورد سلفاكير في مؤتمره الصحفي طوفانا من الشكوك حول حسابات البترول متهما شريكه بعدم الشفافية في حين أكد مصدر في الطرف الآخر أن الحركة متاحٌ لها الوقوف على حسابات البترول وأن وزير الدولة بالمالية لوال دينق (أحد وزراء الحركة) مسؤول عن موارد التعاون الدولي والعلاقات المالية مع الجنوب. وهناك لجنة مشتركة للإشراف على حسابات البترول. فضلا عن أن حكومة الجنوب تعاني من نقص الكفاءات والخبرات في مجال الحسابات والإجراءات المصرفية والنقدية وبسبب هذا النقص لم تستطع حتى الآن وضع موازنة الجنوب وتتجه للاستعانة بخبراء أجانب لسد الخلل. وأعلنت وزارة المالية الاتحادية ردا فيما يبدو على هذه الاتهامات أن حكومة الجنوب تسلمت 702 مليون دولار من نصيبها في عائدات البترول للعام 2005 ولم يتبق لها سوى 42 مليون دولار ستحول إليها فور استلام عائدات صادر الشهر الماضي. وتشير المعلومات أن هذه المبالغ حولتها حكومة الجنوب إلى حسابات في كينيا وغيرها في الوقت الذي تنتظر هذه الحكومة مهام كبيرة وكثيرة من اعمار.. وتنمية وتوطين النازحين الجنوبيين المنتشرين في ولايات السودان المختلفة. يشار إلى أن الحركة لم تسحب قواتها من منطقة همشكوريب بشرق البلاد وتسليمها للحكومة حسبما نصت اتفاقية السلام بسبب شماعة الامكانات. وفوق ذلك يتجاهل سلفاكير حقيقة تلكؤ المجتمع الدولي وعدم إيفاءه بالتزاماته المالية تجاه السودان.
إن من غير المعقول أن يتجاوز شريكا الحكم في السودان، في ليلة وضحاها، تركة مثقلة من عدم الثقة امتدت لأكثر من عشرين عاما. مع الإشارة إلى أن ما أفضى به سلفاكير من هواجس لا يخرج عن إطار المدافعة السياسية إذا ما أبطل كيد المشاءين بالفتنة. فالوقفات التي اعترضت سير قطار السلام أبان التفاوض والطريق التي زرعت بالألغام والمتاريس التي وضعت تم وتجاوزها ومعالجتها بروح المسؤولية.
نريد لسلفاكير أن يمتلك نظرة فاحصة وأفق واسع يسمح له بتجاوز المصالح الضيقة والهموم الجزئية، وأن يتخلص من عقلية التمرد
ويتقمص فكر وسلوك رجل الدولة المسؤول حتى يوافق شنٌ طبقه وتبدو قبعته الشهيرة منسجمة تماما معه
.
صحيفة الوطن القطرية 6 فبراير 2006

تعليقات

‏قال أحمد شعبان
شكرا ياجميل.. المقال أفادني كثيراً في بحثي حول شخصية سلفا
شكرا بجد

المشاركات الشائعة من هذه المدونة