قمة الخرطوم.. مشروع مارشال لاستراتيجية عربية ـ إفريقية



قمة الخرطوم.. مشروع مارشال لاستراتيجية عربية ـ إفريقية
ياسر محجوبـ
صورة إفريقيا النمطية في ذهنية العالم الآخر في جانبها الايجابي مستوحاة من صورة نهر يتدفق هادئا ومتعبا‚ مواردها الطبيعية تبدو كشمس تظهر حينا لكنها تختفي أحيانا كثيرة وراء سحب المؤامرة الدولية التي تُعرّي أشجارها الاستوائية ببطء‚ لكن رياح أمل خفيفة تداعب هامات غاباتها المذهبة من حين لآخر‚ إنها قارة غيث عميم وحدائق ذات بهجة وأنهار جارية‚ هذه الصورة السينمائية ربما تُجسد الأهمية الاستراتيجية لهذه القارة في ظل واقع تقاطع المصالح الاقتصادية والتجاذبات السياسية التي تعتري عالم اليوم عالم القُطبية الأحادية‚
للمرة الثانية وبعد 30 عاما حيث جرت مياه كثيرة تحت الجسور يستضيف السودان البلد العربي الإفريقي قمة إفريقية في خواتيم هذا الشهر‚ ولهذه القمة طابع خاص‚ فلا غرو أن نسمع أن السودان عبارة عن إفريقيا مصغرة Microcosm Of Africa وأنه جسر الحضارة العربية الإسلامية إلى إفريقيا‚ السودان كان وما يزال جسرا بين شمال إفريقيا والتي تمثل لحد كبير إفريقيا العربية وإفريقيا المدارية‚ والصلات والروابط بين إفريقيا والوطن العربي صلات تاريخية ضاربة الجذور‚ وربما لا يجد الباحثون عناء كبيرا وهم يبحثون عن الروابط الأزلية التي تربط بين العرب والأفارقة‚ وهذا التواصل التاريخي والرباط الوثيق بين الأمتين لا نبالغ إن زعمنا أنه يصل إلى درجة وحدة ثقافية تاريخية دينية ملتئمة‚ وبعدت العروبة في مفاهيمها القومية عن العنصرية وأصبحت أساسها ثقافة لغوية تضم أعراقا شتى فيهم الأبيض والأسود وما بينهما من ألوان‚ واكتسبت مضامين اجتماعية وتحررية بينما كان فكرة الزنجية رد فعل للاستعمار الغربي وتجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي أكثر من كونه رد فعل لما يُدعى بالهيمنة العربية الإسلامية‚
قومية الدولة الإفريقية
ويأتي في سياق دور السودان كمنارة للتواصل والحوار والتعاون الإفريقي استضافة الخرطوم لأعمال ملتقى الجامعات الإفريقية قبيل انعقاد القمة بأيام بحضور جمع نادر من قادة الفكر بالقارة‚ حيث خلص إلى ضرورة انحياز الأفارقة وتمسكهم بخيار الدولة القومية باعتباره الخيار المتاح عبر آلية تُسهل توفيق أوضاع الأفارقة مع هذه الفكرة «قومية الدولة» حتى تنسحب على واقع القارة ومن ثم العمل على التحرر من الرؤى والمنهجية الغربية وإعطاء الأولية للتعامل مع واقعها‚
وتأتي هذه القمة الإفريقية بالنسبة للحكومة السودانية في غمرة خطوات عملية تنفيذية لاتفاقية السلام التي انتقلت بواقع الانفصال العملي من جراء أطول حرب أهلية في إفريقيا إلى واقع جديد من خلال مرحلة السنوات الست التي تضمنها الاتفاق ليطرح بعدها أمر تقرير المصير في استفتاء لمواطني الجنوب‚ وتعتقد الحكومة ان العمل المشترك خلال هذه السنوات الست سيوصل الجميع إلى تجاوز قضية الانفصال وتأمل في أن يتجاوب العالم الخارجي خاصة الذين يهمهم أمر السودان لاسيما العرب وبسخاء في تعمير الجنوب خلال هذه الفترة القصيرة بحجم الانجازات المطلوب تحقيقها لأجل إحداث تنمية حقيقية ومتوازنة خاصة في مجال البنيات التحتية التي تساعد في ربط البلاد بعضها ببعض وتعزز سبل الحركة والتواصل والاندماج بين أهلها في كافة الولايات‚
ويبدو أن المعطيات السياسية والعسكرية داخليا وإقليميا ودوليا حدت بالخرطوم إلى اتخاذ سلسلة من الاجراءات تحقق بها توازنا سياسيا مع المحيط الإفريقي وتمكنه من فهم تقاطعات وتعقيدات مشكلة الجنوب وما صاحب هذه المشكلة من تطورات دولية آنية فرضت نفسها‚ ويأتي استضافة هذه القمة في هذا السياق فيما تحاول جاهدة أن تستخرج من أغوار الخفاء البواعث الحقيقية التي أثارت شأن قوم لا تعجبهم أن تسير سفينة السودان برياح تشتهيها لتكرس لعلاقات عربية ـ إفريقية تدخل الجانبين في جملة الحسابات الاستراتيجية التي تميز عصر العولمة والتكتلات الاقتصادية والسياسية‚ ولا نحسب أن ذلك نوع من أحلام اليقظة كما يظن البعض نعم هي آمال وأحلام لكنها متسورة بأسوار العقلانية والروية‚ فخير العزم ما صدقه العقل‚
ملابسات مشكلة جنوب السودان
إن الملابسات التي صاحبت مشكلة جنوب السودان ليست إلا نموذجا مصغرا لما يحيكه الغرب لإفشال أي تقارب إفريقي ـ عربي‚ لقد قصدت الإدارة البريطانية الاستعمارية في السودان إلى فصل أراضي الجنوب فعليا توطئة لضمها إلى أراضي شرق إفريقيا وعزلها عن أي تأثير عربي وإسلامي‚ وكان افتراض السياسة الاستعمارية المهيمنة في الجنوب وجود فراغ ثقافي‚ وإذا كان لابد من ملء هذا الفراغ فليكن بالمسيحية بدلا من الإسلام‚ اعتقادا منها بأن الجنوب وأهله من دون ثقافة وإن كانت هناك من ثقافة لديه فهي ثقافة غير جديرة بأن تبقى!‚ وهكذا يظن الغرب أن الجذور الإنسانية والحضارية والثقافية للمجتمعات حزمة نباتات زينة يعاد وضعها وترتيبها في أي مكان يناسبها حجما وموقعا ولونا‚
ويبدو أن هدف الإدارة الاستعمارية كان أن تقوم الإرساليات التبشيرية بتوفير المصل الواقي من الاختراق العربي الإسلامي للجنوب وكان رد فعل الحكومة المركزية تجاه ذلك محاولة كبح المشروع التبشيري في الجنوب‚ ولهذا السبب‚ اتخذ أول اجراء حكومي بعد 6 سنوات من طرد الاستعمار شكل تشريع قانوني لقانون الجمعيات التبشيرية‚ الأمر الذي تطلب الحصول على تجديد سنوي لترخيص عمل الإرسالية‚ وبقي هذا القانون إلى أن تم إلغاؤه في نهاية عام 1996 في ظل الحكومة الحالية المتهمة بفرض الإسلام في الجنوب وذلك عقب زيارة بابا الفاتيكان للخرطوم‚
التوسع في إفريقيا
تاريخيا كان التوسع في إفريقيا والسيطرة على مناطق الموارد الاستراتيجية أحد الأهداف الاستعمارية للامبراطوريات البريطانية‚ والفرنسية‚ والألمانية‚ والإيطالية‚ وكانت تتصارع بعنف وتتسابق بنشاط لاقتسام مناطق النفوذ وتوزيع الإرث‚ خاصة ما كان يطلق عليه وقتها «أرض بلا صاحب»‚ وما كان أكثر تلك الأراضي التي وضعها الاستعمار الأوروبي تحت هذا الشعار‚ خاصة في إفريقيا‚ ومن أبرز سمات الحكم الأوروبي في إفريقيا اقترانه بالقهر وذبح وإبادة الحكام المحليين وإخضاع المواطنين للعبودية واستغلال الموارد‚ لقد «استكبروا في أنفسهم وعتو عتوا كبيرا»‚ وعندما حصلت الدول الإفريقية على استقلالها‚ وجدت نفسها مثقلة بميراث استعماري اشتد معه إحساس شعوبها ببؤسهم وخصاصتهم‚ وتضرم شوقهم إلى عدالة اجتماعية يستجمون فيها من وعثاء لغوبهم الطويل‚
وزيمبابوي ـ على سبيل المثال ـ المستعمرة البريطانية السابقة تخوض حربا منذ فترة مع العالم «الأبيض» بسبب عملية الإصلاح الزراعي التي يتبعها الرئيس روبرت موغابي‚ وتتطلع زيمبابوي من خلال هذه العملية التي هي شأن داخلي صرف إلى دحر بقايا الامبراطورية التي غابت عنها الشمس‚ فهناك قلة بيضاء مازالت تسيطر على مفاصل الاقتصاد‚ فمازال الإقطاع الزراعي الذي خلفه الاستعمار البريطاني باق يمتص دماء المزارعين الوطنيين‚ ولأن موغابي أراد من خطة الإصلاح الزراعي أن يمكن للمزارع الوطني ليصبح شريكا لا أجيرا حيث يأمل في إفساح المجال أمام 350 ألف مزارع أسود في الوقت الذي يسيطر فيه 5 آلاف مزارع أبيض فقط على الأراضي الزراعية‚ قامت الدنيا ولم تقعد وسال الغضب الأبيض سيلا عرما‚
الصين تسعى لإفريقيا
لماذا لا تتوجه الأنظار العربية ـ رغم الواقع المرير ـ إلى إفريقيا فهذه الصين العملاق الذي يثير الفزع الأميركي والأوروبي تحدد أسس نوع جديد لشراكة استراتيجية مع إفريقيا فقد تزامن مع قيام رئيس الوزراء لي جاو سيانغ يقوم بجولة إفريقية صدور وثيقة صينية بعنوان «سياسة الصين حيال إفريقيا»‚ تقول ان بكين تعمل على إقامة وتطوير نوع جديد من الشراكة مع إفريقيا‚ فليطلب العرب الحكمة من الصين والأقربون أولى بالمعروف‚ إن الدلائل تُشير إلى أن ليل إفريقيا يوشك أن يتولى وفجر مستقبها يكافح الظلام في قوة‚ فهل سيخوض العرب الإعصار ويرسون في آخر الأمر على الشاطيء السعيد؟!‚ فلتكن قمة الخرطوم منطلقا لمشروع مارشال لاستراتيجية عربية ـ إفريقية
صحيفة الوطن القطرية 22 يناير 2006

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة